كلام كثير قيل عن أبو ماريّا القحطاني. خلافاتٌ حادّة نُسجت بينه وبين أبو محمد الجولاني زعيم «جبهة النصرة»، منها «انقلاباتٌ قادَها القحطاني وصلت إلى حدّ وضع الجولاني في الإقامة الجبرية، ثمّ قتله»، قبل أن تذهب الأقاويل في منحى آخر، وتطيح القحطاني من «الهيكل القيادي للنصرة».
كلّ هذا، وما زال أبو ماريّا «رجل النصرة القوي»، وأحد أكثر قادتها ظهوراً إعلاميّاً، مستعملاً صفحته على موقع «تويتر» منبراً يوجّه من خلاله الرسائل، والنصائح، ويكيل الشتائم عند اللزوم. يُنظّر «شرعيّاً»، وعسكريّاً، ويُحافظ خلال كلّ ذلك على لهجةٍ «موقّرة» حين يدور الحديث عن بعض «القياديين الجهاديين». ومن بين هؤلاء زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وزعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني.

«الرجل الغامض»

على نحوٍ مشابهٍ لحالة الجولاني، تبدو شخصية القحطاني مزيجاً من رواياتٍ غامضة، ومتناقضة. هو ميسر علي الجبوري من مواليد حزيران 1976، ينحدر من بلدة هرارة العراقية (محافظة نينوى)، وإليها ينسبه خصومه، مطلقين عليه لقب «الهراري». يؤكد هؤلاء أنّ أبو ماريّا كان أحد ضبّاط الجيش العراقي في عهد صدّام حسين، مستندين إلى «معلومات استخباريّة عراقية»، الأمر الذي تنفيه مصادر «جهاديّة»، وتقول إنه «على العكس من ذلك كان يُكفّر البعثيين، شأنه في ذلك شأن والده». تتقاطع معظم الروايات على أن أبو ماريّا قد انضمّ إلى تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» بعد الغزو الأميركي للعراق، وتحديداً في عام 2004 تحت إمرة الزعيم «الجهادي» البارز أبو مصعب الزرقاوي.
لا يمثّل العريدي والقحطاني تيارين داخل «جبهة النصرة»

تؤكد روايات الخصوم أن القحطاني كان قد استبق ذلك بالعمل «شرطيّاً في سيطرات الموصل» بعد حل الجيش، والقرار الشهير للحاكم المدني الأول للعراق بول بريمر بإعادة هيكلة وتدريب جهاز الشرطة العراقية. بدوره، مصدرٌ «جهادي» سبق له أن قاتل تحت إمرة القحطاني في دير الزور يؤكّد لـ«الأخبار» أن «لا نصيب لهذا الكلام من الصحة. عرفنا الشيخ القحطاني، وخبرناه. ولم نجد فيه سوى صفات المجاهدين الأكابر. كذلك فإنّ الحظوة التي نالها عند الشيخ الزرقاوي لا يمكن لها أن تتأتى من فراغ».
يؤكد المصدر أن «الشيخ القحطاني أبلى بلاءً حسناً في معظم العمليات العسكرية للمجاهدين بين عامي 2004 و2006. كذلك كان موضع ثقة لدى قادة الجهاد، سواء في الأمور العسكرية أو الشرعية، الأمر الذي أهّله لتسلّم منصب شرعي الموصل إبّان إعلان دولة العراق الإسلامية عام 2006». لعب القحطاني دوراً أساسيّاً في اجتذاب «البيعات العشائرية» للتنظيم الوليد، وتقلّد مناصب عدّة فيه، أبرزها «إمارة الحسبة في الموصل». اعتُقل عام 2008، وأطلق سراحه في أواسط عام 2010.

القحطاني والجولاني

خلافاً لما تداولته مصادر عدة عن أن القحطاني غادر العراق إلى سوريا قبل اندلاع أزمتها «معتزلاً العمل الجهادي، قبل أن يضع خبراته في خدمة الجولاني لاحقاً»، تؤكد مصادر «الأخبار» أنّ «نفير الشيخ القحطاني إلى الشام جاء في الدرجة الأولى للمساهمة في تأسيس جبهة النصرة». وتعتبر هذه الرواية أشدّ انسجاماً مع حيثيات وضع الولايات المتحدة للقحطاني على «لائحة الإرهاب»، بموجب الأمر الرئاسي التنفيذي رقم 13224، الصادر في 11 كانون الأول 2012، حيث أكدت حينها أنه «انتقل إلى سوريا أواخر عام 2011 لاستغلال البيئة الأمنية السورية السانحة لنقل أيديولوجية تنظيم القاعدة إلى سوريا وتشكيل مجموعات إرهابية ذات تفكير مماثل».
من جديد تتقاطع الروايتان حول مُشترك أساسي مفادُه أنّ القحطاني لعب دوراً محوريّاً في تأسيس «جبهة النصرة»، وأنّ «شبكة العلاقات التي تربطه بقيادات الجهاد العالمي، وتأثيره العشائري، وخبراته السابقة، كانت عوامل مركزيّة في الحظوة التي نالها لدى الجولاني الذي عيّنه أميراً شرعياً. وخلال فترة قصيرة، استطاع القحطاني أن يؤمّن للجولاني اتصالاً مباشراً مع الظواهري، ليحرّره من ضغوطات البغدادي، وقيود رجاله الذين عيّنهم في مجلس شورى جبهة النصرة». اعتباراً من منتصف عام 2012، أصبح القحطاني «أميراً عاماً لجبهة النصرة في المنطقة الشرقية»، من خلال «مجلس شورى مجاهدي الشرقية» الذي خاض معارك عنيفة مع تنظيم «الدولة الإسلاميّة»، حُسمت لمصلحة الأخير، لينتقل القحطاني بعدها إلى الجنوب السوري، ومن جديد أثيرت أقاويل كثيرة عن وجود خلاف حاد بينه وبين الجولاني، الأمر الذي نفته حينها مصادر «جهادية» لـ«الأخبار»، مؤكدة أن «توجه الشيخ القحطاني والشيخ أبو حسن الكويتي (الشرعي الثاني في النصرة حينها) إلى درعا كان بالاتفاق مع الشيخ الفاتح (الجولاني)» («الأخبار»، العدد 2347).
مصدر «جهادي» مواكبٌ لتلك المرحلة يؤكد أنّ «خلافاً في وجهات النظر ساد حينها بين الشيخين، وتمّ حلّه باللجوء إلى نظام الشورى المعمول به داخل الجبهة، وبالاستفادة من نصائح كبرى المرجعيات الجهاديّة». الخلاف، وفقاً للمصدر، تمحور حينها حول «إمارة الشام، حيث كان الشيخ الجولاني متعجّلاً لإعلانها، فيما كان الشيخ القحطاني معارضاً خشية تأليب الساحة الشاميّة». ويبدو حسم القضية وفقاً لرأي القحطاني واحداً من المؤشرات على مكانته لدى «المرجعيات الجهادية» التي لعبت دوراً في احتواء الوضع داخل «النصرة» والحيلولة دون حدوث شقاق بين الرجلين.

هل عزل الجولاني القحطاني؟

في تموز الماضي، نشرت مواقع إعلامية محسوبة على «النصرة» إصداراً مرئيّاً يظهر فيه د. سامي العريدي، وتمّ التعريف عنه حينها بصفة «الشرعي العام لجبهة النصرة». سريعاً، راج خبرٌ مفادُه أنّ «الجولاني عزل القحطاني وعيّن العريدي بدلاً منه». واعتبر كثير من الآراء الأمر بمثابة إقصاء للقحطاني. لكن المؤكّد أن الموضوع لم يعدُ حينها كونه «إعادة هيكلة للنصرة». كان العريدي واحداً من أعضاء «مثلث النصرة الشرعي» إلى جانب القحطاني وأبو حسن الكويتي. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ الجولاني، في مقابلته الشهيرة مع قناة «الجزيرة» القطرية (كانون الأول 2013)، قد نصح بـ«متابعة الشيخ العريدي لفهم التوجه الشرعي لجبهة النصرة». تؤكد معلومات «الأخبار» أنّ «إعادة هيكلة قيادة النصرة قضت بأن يتربّع العريدي على رأس الهرم الشرعي، من دون أن يعني ذلك أيّ إقصاء للقحطاني». وعلى العكس من ذلك، حظي الأخير سريعاً بمكانةٍ داخل «النصرة في درعا»، إذ ترقى إلى درجة «الأمير العام»، الأمر الذي ارتكز غالباً على الخبرة العسكرية والأمنية «الجهاديّة» للرجل. علاوةً على ذلك، تؤكد مصادر «الأخبار» أنّ «كل ما يشاع عن أن العريدي والقحطاني يمثلان تيارين مختلفين داخل النصرة عارٍ من الصحة». وتنسجم هذه المعطيات مع مواقف الرجلين الأخيرة من المعارك التي خاضتها «النصرة» ضدّ «لواء شهداء اليرموك» في محافظة درعا.