غزة | ثلاثة قتلتهم السياسة قبل أيّ شيء آخر. قتلتهم من دون أن يهزّها موتهم الحتميّ. تركتهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم في البرد القارس الذي وجد طريقه إلى خيامهم وكرافاناتهم المنشأة لهم بدلاً من بيوتهم المدمرة في الحرب. رضيعان وشاب، وقعوا فريسة سياسة التنصّل من وعود إعادة إعمار قطاع غزة وفكّ الحصار، كما وقعوا ضحايا مسلسل الخلافات الحادّة بين «فتح» و«حماس». هاتان الحركتان الكبريان اللتان تتصارعان على الحصول على مكتسبات سياسية ومالية، فحوّلتا، بكلّ برودة قاتلة، أجساد الأطفال الغضّة وقوداً لابتزاز كلٍّ منهما الآخر.
لا همّ إن احترق الطفلان «الهبيل» بنيران صراعهما المفتوح. ولا همّ إن استقر الصقيع في أطراف الرضيعين عادل اللحام (شهر) ورهف أبو عاصي (4 أشهر)، فالتقطهما حضن الموت. ولا همّ أيضاً إن نالت أنياب البرد الصلفة من جسد الشاب أحمد اللحام (22 عاماً). كلّ ما يهمّ أن يستمر صراع الديكين، فيما القطاع وأهله سقطا، أصلاً، من حساباتهما المصلحيّة.
ثمّة وقتٌ وافر للّعب، تارةً بمصير موظفي القطاع، وطوراً بالتنكّر بزي «داعش»، في تسابقٍ محموم إلى ليّ ذراع كلّ منهما الآخر. وفي المقابل، لا وقتَ للتفكير في الأجساد التي ترتعش برداً في خيامها، ومنازلها المدمّرة التي تسد فتحات القذائف فيها بالنايلون الرقيق. أكثر من أربعة أشهر مرّت على وضع المعركة أوزارها، وملف إتمام المرحلة الأولى من إعادة الإعمار «مكانك راوح». وقد كلّفت لعبة إعادة إنتاج الحصار، بأيدٍ عربيّة وأمميّة، الغزيين أرواحهم.
رهف، التي لم يشفع لها اسمها، عند أصحاب البِذَل وربطات العنق، كانت قد نجت من موتٍ محتوم خلال الحرب الأخيرة، لكنّها لم تنجُ من بردٍ شديد لا طاقةَ لجسدها الصغير على احتماله. قبل يومين، أطلقت الطفلة صرختها الأخيرة في منزلها المتهالك، إذ جزءٌ من سقفه مكشوفٌ للسماء ومياه الأمطار. حاولت والدتها أن تقف في وجه البرد الذي يخترق جسدها، لكن خطوات الموت كانت أسرع إلى طفلتها، فأُصيبت بضيق في التنفس وانسداد حادّ في الشعب الهوائية.
هكذا، أغمضت رهف عينيها على حياةٍ قصيرة، في وقتٍ تكرّ فيه سُبْحة قتلى البرد تباعاً. تقول والدة رهف، في حديثها لـ«الأخبار»: «لم أكن أتخيل أن أفقد طفلتي بهذه السهولة... فعلتُ ما بإمكاني لحمايتها من الماء الذي يتسرب من شقوق المنزل ونوافذه المغطاة بالقماش والنايلون، لكنني لم أفلح في ذلك، وماتت دون أن تنعم حياتي بها». وتحمّل، الوالدة، المتواطئين في حصار القطاع مسؤولية خسارة روح ابنتها، داعيةً كلّ المعنيين إلى «حلّ أزمة النازحين واللطف بحالهم المزري».
لم ينتهِ تهميش المسؤولين لواقع الغزيين المعاش عند حكاية رهف، بل تجاوز حكايتي الرضيع عادل اللحام، والشاب الصيّاد أحمد اللحام، والحبل على الجرّار. في بيتٍ مسقوف بالصفيح، ومهترئ بفعل شظايا القذائف المدفعيّة التي ضربته في الحرب، لفظ عادل أنفاسه الأخيرة، بعدما تحوّل إلى كتلة متجمّدة من البرد. لم يكن يعلم والد الرضيع، ماهر، أن ازرقاق جسد رضيعه سيؤدي إلى موته سريعاً. يقول اللحام لـ«الأخبار»: «ظننته متشنّجاً من البرد، فسارعت إلى نقله إلى مستشفى ناصر في خان يونس، لتنتابني الصدمة سريعاً بإعلان الطبيب وفاته». ويبدو الأب ساخطاً بشدّة على القيادات السياسية الفلسطينية، بل يحمّلها مسؤولية خروج حالة القطاع عن الحدّ المعقول، مضيفاً: «حسبنا الله ونعم الوكيل. اتقوا الله فينا. ماذا تنتظرون كي تتحرّكوا؟ أن يموت الأطفال جميعهم في القطاع؟».
أمّا أحمد، فمات تجمّداً وهو على رأس عمله. لم يخطر ببال الشاب الصيّاد، أن شباك الصيد التي رماها في بحر خان يونس ليعلق رزقه بها قد تستحيل شباكاً للموت تتلقّفه. وأعلنت وزارة الصحة في غزة وفاة الصياد بعد توقّف قلبه عن العمل إثر نوبة من البرد الشديد ألمّت به.
ويعاني 100 ألف شخص من سكان القطاع والمناطق الحدودية ظروفاً قاسية جرّاء فقدانهم منازلهم خلال الحرب الأخيرة، وعدم دوران عجلة إعادة الإعمار، ليظلّ السيناريو الأوحد يفرض نفسه في القطاع، فمن لم يمت قتلاً مات حرقاً، ومن لم يمت حرقاً مات تجمّداً. هكذا، يبدو الجميع متقاسماً للموت، وكأنّ الأسباب قد تعدّدت والموت واحد.