زارني الخريف ثلاث مراتٍ منذ رحيلك يا كرمى، بل ثلاث مراتٍ ويومين. أتحسبين أني سأخطئ العد يا مختارة؟ وهل يخطئ حبر يدي الذي دون الأرقام والايام على باب الخزانة؟ لا، ليس الباب الاول، ان كنت ستسألين، فعليه تاريخ ميلاد أولادنا وأحفادنا، حيث كنت أدون كل التواريخ في يومها حتى لا ننسى ولا نضيّع الماضي. كان باب الخزانة الأول بمثابة بطاقة ميلاد للعائلة كلها.
وانا لن أمزج الفرح مع الألم؛ فكل منهما له باب وزمن. انما دونته على الشق الثاني، حيث فساتينك الملونة ومناديلك السكرية. أطل عليها حين أشتاقك، وأفعل ذلك كلما نهضت من فراشي!
ماذا يفعل الختيار حين يفقد مختارته؟ هل من حياة بعدها؟ ما هو دين هذا الاستمرار البائس؟ لأجل من يا كرمى؟ لأجل ماذا؟ حين فقدت الأرض والقرية، أحسست بالضياع. ظننت أن هذه هي نهاية الحياة بالنسبة لي. أتذكرين ماذا فعلتِ وقتها؟ قلتِ لي: "أنا وطنك الآن، اسكنّي، فأنا الأرض حتى نعود". نمت في حضنك من دون حاجةٍ لإبراز هوية اللجوء ولا تصريح عبور يخولني الدخول. أكلت الخبز من بين يديك ولم أضطر للوقوف في طوابير الاعاشة المذلة لسنوات كثيرة في لبنان.
وها قد فقدتك... الوطن الثاني غادرني.
أتعلمين ماذا يفعل المرء حين يفقد الوطن مرتين؟ حين يفقد وطنين؟ يذهب بحثا عنه/ عنها. يطارد رائحته/ رائحتها حتى انقطاع النفس، وحتى انقطاع النفس يا كرمى!
"سيْدي.. يا مختار..ِ سيْدي!" كانت هذه آخر كلماتٍ سمعها المختار وهو يغمض عينيه ببطء شديدٍ للمرة الأخيرة. تنبهت حفيدته الى هدوئه المتواصل لساعات، ظنّت أنه منشغل في تأملاته اليومية، فلم تسأله شيئاً. لكن صمته كان وداعاً للمخيم، بينما كان في الوقت ذاته، موعد اللقاء بالمختارة.
تذكرت أنه أخبرها منذ يومين، أن جدتها زارته في المنام. يبدو أنها اشتاقت له الآن، فلم تعد تقوى على الصبر بعد.
لم تصرخ، بكت بصمت وهي تزيل العقال عن رأسه، ومسحت بحطته بعضاً من دموعها... ثم ودعته.
"رحلت يا مختار وأنت أقدم من لدينا؟ لمن تركت المخيم وأنت أصدق شاهد على حكايا الوطن والثورة والغربة والعودة؟ من سيدلنا على البيت والأرض والبقرات حين نعود؟ من سيميز القرية بعد أن غيّر اليهود ملامحها بالكامل؟ كنا نفخر بأنك تعرف الأرض شبراً شبراً، وغادرتها مختاراً شاباً لك خمسة أولاد يشهدون على كل شي. كنت أنت التاريخ بالنسبة لنا، وانت فلسطيننا حتى نرى فلسطين بأعيننا ونسكنها بأجسادنا.
أوصيتني بالمفتاح يا جدي، وها هو معلق على الحائط أمامنا، أمام من يدخل هذا البيت حتى يكون أول شيء يراه، ولا ينساه أبد العمر. ماذا أفعل به يا مختار؟ ماذا أفعل بالحطات والعقال والمرآة المكسورة؟
أعلم انك احتفظت بها لأنها آخر ما رسم ملامح المختارة لسنوات. هل أخفيها حتى لا تجرح أحداً؟ وماذا إن عدنا الى فلسطين؟ أين ستكون انت وجدتي؟ كيف سنزوركما كل أسبوع؟
*من المفترض أن هذا المقطع هو الجزء الاخير من ثلاثية اللزازة التي نشرتها الاخبار بشكل متوال في مخيمات، لكن لربما يكون هناك جزء رابع وخامس، ومن يعلم؟ قد تصبح رواية يوماً ما.