لعل أكثر ما يثير الاهتمام والتساؤل في حديث حركة «حماس» عن «التوبة» من صراع التيارات الإقليمية والدولية، هو منطقية فكرة «النأي بالنفس» لحركة تعتمد على الدعم والتأييد الخارجي في مواجهة إسرائيل المدعومة من الخارج أيضاً. فهل يمكن أي دولة، أو منظمة، في هذه المنطقة الساخنة، اختيار مكان بعيد للعمل فيه... والحديث عن الحياد هنا يمسّ حالة مقاومة عسكرية وسياسية؟
من نافلة القول وصف الشرق الأوسط بأنه «تيرمومتر الاحتقان الدولي»، فانطلاقاً من تقسيمات سايكس ـ بيكو واحتلال فلسطين، يجد العرب أنفسهم في دائرة اصطفافات متقلبة تتغير مسمياتها من مرحلة إلى أخرى. لكن من متطلبات التمحور في أي حلف «توليف الرؤى تجاه القضايا العالمية إلى حد الانسجام والتعاون المشترك».
بلغة محور الاعتدال العربي، صار المطلوب منذ زمن «الفكاك من غضب الإدارة الأميركية والدخول في مربع أصدقائها» حتى لو تطلب ذلك الاستغناء عن الثوابت الأساسية، كفلسطين. من هنا، فأي حديث يصدر من فصيل فلسطيني عن التموضع وحسن العلاقة مع الأنظمة العربية، كالخليج وما لفّ حولها من دول، هو تسليم كامل بدعم إسرائيل ومساندة الولايات المتحدة في حروبها وخططها.
أمام هذا المعسكر العملاق المدجج بالمال والسيطرة، تكاد تقف دولة كبيرة وحيدة في محور الرفض، هي إيران، ومعها سوريا، وجزء من لبنان يدعى حزب الله. ومن اللحظة الأولى، كان التحالف مع هذا المحور، الذي يعلي قضية فلسطين، مكلفاً حدّ الاغتيالات والحروب وخطط التقسيم. أما في الحديث عن روسيا، فهو لم يكد يظهر إلا في الأزمة السورية، ما يبعد أي «مبدئية» في الموقف اتجاه فلسطين. وحتى بالذهاب بعيداً نحو المقارنة بين الثقافة الإيرانية، وثقافة دولة كفنزويلا، لا بد من الانتباه إلى التشابه والاختلاف، بين حالة الوعي الذي صنعها خط تشي غيفارا في الانحياز إلى الضعفاء والمظلومين عند الشعب المعتنق للفكر الشيوعي الاشتراكي، وبين الثورة الإسلامية ـ الحسينية التي تنطلق منها المواقف الإيرانية.
من الجيد البحث في تاريخ النضال الفلسطيني واصطفاف التنظيمات، الثورية واليسارية والإسلامية، بين تلك المحاور، منذ بداية الكفاح المسلح في الستينيات، حتى الألفية الثانية. فعندما تشكلت منظمة التحرير، خاض ياسر عرفات عمق الصراع العربي، فأدخل الفلسطينيين في اصطفافات كان يجب أن يكونوا بمنأى عنها. وتسجل صفحات التشرد الفلسطيني أنه في اليوم التالي من إعلان «أبو عمار» موقفه الداعم لصدام حسين في حربه على الكويت، طردت عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية التي اتخذت الكويت سكناً ومأمناً، ثم استرجعت مرارة هذه التجربة مع الأزمة السورية الجارية كوجه للمقارنة، حينما تركت «حماس» الفلسطينيين لمصير مجهول في سوريا، جراء مواقفها السياسية من النظام. كذلك كان الأمر في التجربة العنيفة داخل لبنان، وسبقتها تجربة سيئة في الأردن.
بالعودة إلى ما يفترضه قادة «حماس» اليوم، هل يستطيع الفلسطينيون العمل بانفراد سياسي حقيقي ومنأى عن محاور الصراع؟ قد تبدو هذه النظرة غير ممكنة في العالم الذي يحتاج فيه الضعيف للقوي كي يحميه، فالمقاومة الفلسطينية بكل قدراتها الذاتية، هي بحاجة إلى من يساندها ويساعدها، بل يحمل أهدافها ويتفهم متطلباتها. وفيما تنسحب الحالة الدولية على الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لا يمكن إغفال أن إسرائيل هي رأس حربة في المشروع الأميركي في المنطقة. وقد تكون مناقشة قضية المحاور فلسطينيا، أو على المستوى الحمساوي، غير منطقية إن تُرك تقويم الدروس السابقة لمنظمة التحرير، وتحشيد أخطاء المنظمة في الصراع بين «حماس» و«فتح» دون وجود استفادة حقيقية. لذا، محاولة «التذاكي» على الذات، وتناسي أن أساس الاصطفاف الحالي في المنطقة هو القضية الفلسطينية، لن تصل إلى نتيجة.
ولا يمكن، أيضاً، الفلسطينين المطرودين من أرضهم بدعم دولي، أن يسعوا إلى استعادتها بعناد المنفرد، لكن ذلك لا يكون أيضاً عبر بوابة «المجتمع الدولي» التي صنعت لمراعاة توازنات قوة لا تزال قائمة، وتدعم إسرائيل بوضوح.
يمكن، بسهولة، أن تستغل المقاومة التقاطع مع الأحلاف الدولية لتوظيفه في تحقيق الطموحات الوطنية، لكن المغامرات غير المحسوبة تؤدي إلى عواقب وخيمة، ترى «حماس»، ومعها القضية الفلسطينية، نتائجها اليوم، في ظل حالة صعود وهبوط اتخذت شكل شريط الفيديو المستمر في تكرار العرض نفسه، ولم يبق إلا إطلاق «نكت سمجة» في الحديث السياسي.