اللاذقية | لا بدّ لمن يتجه إلى حديقة العروبة، حيث تقيم محافظة اللاذقية تكريماً لعمّال النظافة، من أن يعرّج على شوارع المدينة الرئيسية لعلّه يفهم أسباباً للتكريم. ليس المقصود أن يبخس أبناء المدينة حقوق العمال المهضومة أساساً من قبل البلدية، لكن يبدو السؤال مشروعاً عند ملاحظة كميات هائلة من القمامة المتناثرة حول الحاويات في المدينة وضواحيها. وتزداد التساؤلات، مع التركيز على حالة السلم التي تشهدها المدينة، بالمقارنة مع مدن تجرّعت أمرّ كؤوس الحرب وغرقت في الفوضى.
الردّ الجاهز من أعضاء مجلس مدينة اللاذقية على القذارة التي تُغرق شوارع المدينة السياحية، هو عدم توافر الآليات اللازمة لنقل الأوساخ ومتطلبات صيانتها، في ظل التضخم الذي شهدته المدينة بعد توافد ما يزيد على مليون نازح إليها. الأمر يتطلب حلّاً سريعاً، بدل العمل على تنظيم فعالية في مركز العروبة للنشاطات الثقافية، وسط المدينة، تقوم على تكريم 300 عامل نظافة، إضافة إلى 70 عامل حدائق وصيانة. واللافت أن التكريم يأتي على خلفية عمل هؤلاء على تنظيف الشوارع خلال أيام الإعداد لزيارة رئيس مجلس الوزراء وائل الحلقي منذ أكثر من شهر.
بلباسهم الميداني المتواضع ذاته، رغم البرد الشديد، وصل العمال قرابة التاسعة صباحاً إلى المركز، وتناثروا في الحديقة، حتى وصول المسؤولين عند الساعة الواحدة ظهراً. مظهر العمال الجالسين على الأرصفة، المنتظرين لمدة أربع ساعات، يشي بظلم أبناء هذه المهنة على مدار عقود، والذي لم يتغير رغم الحرب وتغييرات اجتماعية أحدثتها في المجتمع السوري. بعض هؤلاء البسطاء تحرّكوا بناءً على طلب من بعض أعضاء المجلس التنفيذي، لحمل معدّات الصوت تهيئة لمنبر الخطابات التي استمرت 10 دقائق على «شرف عمال الوطن»، في مناسبة «وطنية» كهذه. وتناهى صوت أحد أعضاء مجلس المدينة يطلب إلى العمال تنظيف المداخل والمخارج، وتجميل بعض أجزاء الحديقة. ولتكتمل «المظاهر الوطنية»، وزّعت الأعلام واللافتات والصور على العمال، قبيل وصول كاميرات المحطات الرسمية برفقة المحافظ إبراهيم خضر السالم ورئيس البلدية.
انتظر العمال أربع ساعات حتى وصول المسؤولين

جموع غفيرة وصلت عند وصول محافظ اللاذقية وأمين فرع حزب البعث وأعضاء المكتب التنفيذي جميعاً، إضافة إلى رئيس مجلس المدينة، ما يوحي بإفراغ مبنى المحافظة من جميع موظفيه المتوافدين إلى موقع الحدث. مشهد يشي بأن جميع ضيوف «مركز العروبة» توافدوا لشكر العمال الفقراء والاحتفاء بهم، بالتزامن مع ابتسامات على وجوه ممثلين عنهم من أعضاء مجلس الشعب السوري في المدينة. وبعد حفلة الشعارات التي شكرت من أعطى للعمال حقوقهم وللفلاحين أرضهم، بدأ توزيع المكافآت المالية. يبدأ محمد، أحد عمال النظافة، بخلع ملابس الخدمة، بعد تسلّم مظروف المكافأة المالية. يبتسم بخيبة قائلاً: «طُلب إلينا أن نرتدي هذه الملابس الميدانية لمناسبة التكريم. ربما كي لا ننسى أننا أصحاب المهنة التي يستحي بها الناس. يمكنني الآن أن أخلع هذه الملابس بانتهاء التكريم، وأن أرتدي ملابسي المدنية مثل المسؤولين، رغم أنهم يرتدون أفخم ما لديهم».
ويضيف: «لسنا مسؤولين عن القمامة المتناثرة في الشوارع. اسألوا أصحاب المعاطف الفاخرة، ماذا فعلوا لأجل تأمين متطلبات عملنا على أكمل وجه، بدلاً من هذا التكريم المُخجل». يفتح علي، عامل آخر، مظروفاً مغلقاً، ويتناول ما بداخله. أربع أوراق نقدية زرقاء اللون، تعادل 2000 ليرة، أي ما قيمته 10 دولارات أميركية، هي مكافأة العامل الواحد. ويطلق الشاب الضحكات مع زملائه ساخرين من حجم المبلغ.
أحد أعضاء المكتب التنفيذي بدا مستاءً مما يجري، وتحدث إلى «الأخبار» رافضاً الكشف عن اسمه، قائلاً: «كان من الممكن أن ينزل المبلغ المتواضع في جدول رواتب العمّال كمكافأة مالية، بدلاً من هذه المسرحية الهزلية. كلّ من هؤلاء الجالسين يرتدي سترات شتوية قد يصل ثمنها إلى 300 دولار، وكأنهم يتسابقون إلى حضور حفل زفاف بأبهى حلة». ويتابع الرجل: «ما يجري الآن لا يحقق أي جدوى مرجوّة للأفضل. إنه ليس أكثر من تغذية الحقد الطبقي بين الأغنياء والعمال الفقراء الذين لا يعادل مبلغ مكافأة كل منهم أكثر من ثمن دواء الزكام لأحد أطفالهم». وتخلل المشهد إحراج واضح على ملامح محافظ اللاذقية الذي حاول الاحتفاء بالعمال، من خلال تقديم المشروبات إليهم بيديه. لم يكن المشهد كافياً لحفظ ماء الوجه أمام الفعالية التي اندرجت تحت بند الهدر والنفاق، حسب قول أحد أعضاء مجلس المدينة. وفي حين انتهت الكاميرات من أخذ تصريحات لعاملين أو أكثر، «ممن يشكرون الحكومة على هذه المكرمة»، بدأت تصريحات المسؤولين التلفزيونية تتصاعد للتباهي بهذا التكريم، وذلك بالتزامن مع حمل بعض العمال النشيطين مكانسهم، وبدء تنظيف المكان من أوساخ ضيوفه.