في زيارته الأولى لموسكو، في 19 حزيران الماضي، تلقّى وليّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من الرئيس فلاديمير بوتين العرض التالي: نساهم في اقناع أصدقائنا الايرانيين بالوصول الى تسوية في اليمن تحفظ نفوذكم التقليدي وأمن الممرات المائية الحيوية لكم وللعالم وممرات النفط الخليجي عبر البحر الأحمر الى أوروبا. اما المقابل، فهو الذهاب الى حل سياسي في سوريا.
قدّم الرئيس المضيف عرضه مشفوعاً برؤية روسية تقوم على أن العدوان السعودي على اليمن يكاد يتحوّل حرباً طويلة، وأن الاتفاق النووي بين طهران والدول الغربية بات ناجزاً بما يعنيه من اعتراف بدور ايراني محوري في المنطقة، وأن تنظيم «داعش» خرج عن سيطرة داعميه ليتحوّل خطراً عالمياً، وخصوصاً على السعودية لرمزيتها الدينية، وعلى روسيا لوجود أعداد كبيرة من مقاتلي التنظيم الارهابي من دول آسيا الوسطى.
وفق هذا التفاهم، استقبل محمد بن سلمان رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك في الرياض في آب الماضي. ورغم أن التقييم الأوّلي للقاء أنه «يشكّل نافذة فرصة»، بدا واضحاً ان الامير السعودي وجد صعوبة في تسويق الـ «ديل» لأسباب عدة، أهمها الصراع الداخلي على القرار السعودي وصعوبة اقناع الحلفاء الأميركي والتركي والقطري.
في هذه الأثناء، كانت قوات الغزو السعودي تحقق تقدّماً سريعاً ومفاجئاً في اليمن، بغطاء أميركي. خرج انصار الله من عدن ومعظم مناطق الجنوب، وصولاً إلى إعلان رئيس الحكومة اليمنية الموالية للرياض خالد بحّاح، في 17 تموز الماضي، «تحرير عدن». شعر إبن سلمان بأن الأمور تسير بما يخدم طموحه في حمل لقب «بطل النصر» في وجه غريمه الأبرز ولي العهد محمد بن نايف، وبالتالي تصرف على اساس ان في امكانه التحلّل من الاتفاق مع بوتين.

عرض ابن سلمان
إحياء «ديل» اليمن مقابل سوريا فردّ بوتين: فات الأوان!


لكن رياح اليمن لم تجرِ تماماً بما تشتهي سفن «الأمير الحالم»: عجزت قوات الغزو التي كانت تطمح الى الوصول الى صنعاء عن تجاوز تعز ومأرب، وزادت الخسائر البشرية والمادية السعودية، مع الارتفاع المضطرد لكلفة الحرب وبدء لمس مظاهر التردّي في الاقتصاد السعودي. وكلها عوامل تصبّ لغير مصلحته في «حرب المحمدين» التي يخوضها مع ولي العهد.
تصاعد الضغط الداخلي على ولي ولي العهد، وانطلقت الحملة الجوية الروسية في سوريا. بات واضحاً الالتزام الروسي بمساعدة الرئيس بشار الأسد. شعر إبن سلمان، مرة أخرى، بأن الترياق قد يأتي من موسكو، فطلب لقاء جديداً مع بوتين. لم يستقبل الرئيس الروسي ضيفه في الكرملين، وإنما في منتجع سوتشي (جنوب روسيا) على هامش فعاليات سباق «فورمولا ــــ 1» للسيارات. والمتابعون يؤكدون أن اللقاء «كان بارداً وثقيل الوطأة». عرض الضيف السعودي إحياء الـ «ديل» القديم نفسه: حلّ يحفظ ماء الوجه في اليمن مقابل حل سياسي في سوريا. المصادر تؤكد أن بوتين ردّ على إبن سلمان بطريقته المباشرة المعروفة: عرضت عليكم مقترحا كان يمكن أن يوصلنا الى تسوية. لكنكم لم تسيروا في الاتفاق الذي التزمت به. الآن فات الأوان بعدما باتت القوات الروسية موجودة في سوريا.
انتهى اللقاء الى فشل، وهو ما عبّرت عنه تسريبات سعودية وصفت اللقاء بـ «العاصف»، وقالت إن محمد بن سلمان حذر الروس من «عواقب وخيمة» لتدخلهم في سوريا، ومن أن هذا التدخل «سيجذب متطرفين من أنحاء العالم». كما عبّرت عنه أيضاً عودة الرياض الى نغمة «لا مستقبل للأسد في سوريا»، ورفض أي من صيغ الحلول المطروحة.
ترافق ذلك مع حملة اعلامية ضد روسيا على خلفية وصف تدخلها بـ «حرب صليبية جديدة»، وهو الشعار الذي استُقدم في ظله مقاتلون جدد، خصوصاً من الشيشان، الى سهل الغاب وريف اللاذقية. فيما فتحت السعودية مخازن صواريخ «تاو» الاميركية المضادة للدروع أمام مختلف فصائل المعارضة المسلحة. وتم الغاء العمل بمعايير صارمة كانت واشنطن تفرضها على السعوديين والأتراك لتسليم هذا السلاح للتأكد من وجهة الاستخدام والجهة التي تستخدمه.
في غضون ذلك، كان الجيش السوري وحلفاؤه يحشدون قوات برية لمرافقة العملية الجوية الروسية، خصوصاً في ريف حلب شمالاً وفي سهل الغاب وريف إدلب في الوسط: تشكّل «الفيلق الرابع اقتحام» ووظيفته الأساسية العمل في الشمال، عزّز حزب الله قواته برفدها بمئات المقاتلين الجدد، وأرسلت ايران 2000 جندي الى ريف حلب، وعزّز «لواء الفاطميين» الذي يضم غالبية من المقاتلين الأفغان جبهة الشمال السوري.
كانت العيون كلها على الشمال والوسط عندما رصدت الاستخبارات الروسية، قبل أسبوعين، خطة يعد لها السعوديون والاردنيون (عبر غرفة الموك) للقيام بهجوم صاعق من الجنوب عبر درعا والقنيطرة لاسقاط دمشق، يترافق مع تحرك كبير لـ «جيش الاسلام» الذي يقوده زهران علوش، رجل السعودية الاول في سوريا، والذي يتخذ من الغوطة الشرقية مقرا رئيسيا له. طابق الروس معلوماتهم مع المعلومات الميدانية المتوافرة لدى حزب الله عن تسجيل تحركات غير عادية في مناطق جوبر وضاحية الاسد قرب دمشق. فجأة غيّرت الطائرات الحربية الروسية مسارها من الشمال الى الجنوب، وأغارت على مجموعة مواقع في جوبر والغوطة الشرقية، خصوصاً بلدتي مرج السلطان ودير العصافير، اضافة الى قرى أخرى تشكّل خطوط إمداد للقوات المهاجمة، ما أدى الى تدمير مواقع قيادية وإسقاط عنصر المفاجأة، وإفشال الهجوم قبل أن يبدأ.