اللاذقية | منذ بدايتها، استرعت الأزمة السوريّة انتباه وسائل الإعلام الروسيّة، شأنها في ذلك شأن معظم وسائل الإعلام العالميّة. وبالتناسب مع الاستعار التدريجي للأزمة، وتحوّلها لاحقاً إلى حرب مفتوحة زاد الاهتمام الروسي الإعلامي، وخاصةً في ظل الموقف الرسمي لموسكو التي عدّت الملف السوري ملفّاً روسيّاً أيضاً.
في تلك المرحلة، تعاملت وسائل الإعلام الروسيّة (ولا سيّما الرسميّة منها) مع الشأن السوري بوصفه شأناً سياسيّاً في الدرجة الأولى. الاستوديو كان المسرح الأساس، حيث الصدارة للبيانات (وعلى رأسها بيانات الكرملين والخارجية الروسيّة) والتصريحات (وفي مقدمتها تصريحات المسؤولين الروس) واللقاءات والتحليلات السياسيّة وما شابه. وبرغم أن أنباء الميدان كانت حاضرةً بطبيعة الحال، لكنّ الأمر لم يبلغ حدّ مواكبة أدق التفاصيل اليوميّة على مختلف الجبهات. فجأةً، وبالتّزامن مع هيمنة الطائرات الروسية على سماء العمليات العسكريّة في البلاد، دخلت بيانات وزارة الدفاع الرّوسيّة على الخط بقوّة مع مواكبة يوميّة للغارات الجويّة. وانسجاماً مع طبيعة المرحلة بدا أن الاستوديوهات والتقارير العامّة لم تعد تفي بالغرض، فوصل المراسلون الحربيّون سريعاً، واحتلّت التقارير الميدانيّة الواجهة.

كل الأبواب مفتوحة

«لا أبواب مغلقةً أمام الإعلاميين الأصدقاء»، يقول أحد العاملين في الإعلام الرسمي السوري. لا يتردّد الزميل في «فتح قلبه» طالما أنّ اسمَه لن يُكشف عنه. يؤكّد لـ«الأخبار» اقتناعَه بـ«حق الأصدقاء في العمل ضمن مناخ صحيّ، لكنّنا بصراحة بتنا نحسدهم ونتمنّى الحصول على حق المعاملة بالمثل»، يقول ضاحكاً. يستفيض الزميل في الحديث عن الصعوبات الكثيرة التي تواجه الإعلاميين السوريين (وعلى رأسهم العاملون في الحقل الرسمي) في مقابل التسهيلات المطلقة الممنوحة للمراسلين الروس. ويخلص إلى أنّ هذا التمييز «سيُفضي حتماً إلى تمايز في الأداء. هم يعملون في بيئة مثاليّة ونحن نسير في حقول ألغام». وكمثالٍ على كلامه يشيرُ الزميل إلى أنّ «مطار حميميم العسكري لم يُفتَح أمام أيّ من مراسلي الوسائل الإعلاميّة السوريّة، فيما نشاهدُ على نحو مستمر تقارير لمراسلي التلفزيونات الروسيّة من هناك».

من اللاذقيّة إلى موسكو: ألو حوّل

مثلما تحوّلت مدينة اللاذقية إلى مكان التمركز الأساس لعسكريي موسكو صارت كذلك بالنسبة لإعلامييها. في واحدٍ من فنادق المدينة الساحليّة ننضمُّ إلى جلسةٍ تجمعُ أشخاصاً سوريين وآخرين روس، من بينهم إعلاميّان اثنان. يأخذ الحديث طابعَاً وديّاً، ويحرصُ الإعلاميّان على عدم الخوض في تفاصيل تتعلّق بعملهما إذ يحتاجُ الأمر إلى «العودة إلى إداراتنا» كما يقول كلاهما، لكنّهما لا يمانعان الحديث عن انطباعاتهما العامّة، ويكيلُ كلّ منهما على حِدة المدائح لـ«الشعب السوري الصديق، والحضارة السوريّة العريقة». لا يخوضان في المواقف السياسيّة، ولا يدليان بآراء في ما تشهده البلاد. يبدو الزميلان صارمَين في هذا الخصوص: «لا كلامَ سوى التقارير التي ننجزُها، في إمكانكم العودةُ إليها». ليسَ غريباً في رأي أحدهما أن يستطيع الدخول إلى المواقع العسكريّة الروسيّة «فهذا شيء طبيعي. نحنُ هنا من أجل هذه المهمّة في الدّرجة الأولى. لا فكرة لدينا عن دخول وسائل إعلام غير روسيّة أو عدمه، اسألوا الوزارة (في إشارة إلى وزارة الاعلام السوريّة)». لا يمضي كثيرُ وقتٍ قبل أن يستأذن الزميلان من الجالسين، ويعلنا انسحابهُما لأنّ «عملاً كثيراً ينتظرنا غداً على الجبهة، ولا تسألني أي جبهة»، يقول أحدهما ضاحكاً.

كيف يعمل الإعلام الروسي؟

«مثل أي إعلام آخر يعمل داخل البلاد بطريقةٍ رسميّة»، يقول مصدر أمني سوري. يؤكد المصدر لـ«الأخبار» أنّ «الموافقات اللازمة لمزاولة مهنة المراسل هي من اختصاص الوزارة (وزارة الإعلام) والمجلس (المجلس الوطني للإعلام)». ويضيف: «لا يختلف الروس عن سواهم. على امتداد الحرب جاء إلى اللاذقية كثير من المراسلين التابعين لوسائل إعلام عالميّة. طالما أنّهم يحملون الموافقات المطلوبة فبإمكانهم أن يعملوا». تختلف الجولة داخل المدينة لرصد أحوالها المعيشية مثلاً عن بث تقرير أو رسالة أو حتى مجرد دخول منطقة عسكريّة. «هذا أمر بديهي حتى في حالات السلم» يقول المصدر، مؤكّداً «وجود حالات تستدعي الحصول على موافقات خاصّة تتبع اعتبارات أمنيّة، لكنّها حتماً لا تُمنحُ إلا لمراسلٍ يحمل الأوراق المُعتمدة من قبل الوزارة»، وفيما يُؤكّد الزميل العامل في الإعلام الرسمي وجود معلوماتٍ لديه عن أنّ «وزارة الإعلام هي آخرُ من يعلم»، تستغربُ مصادرُ داخل الوزارة هذا الكلام. «من المستحيل أن يدخل إعلاميّ البلاد بصفته المهنيّة من دون علم الوزارة»، يقول أحد المصادر لـ«الأخبار». يشرح المصدر أنّ «آليّة منح موافقات العمل متداخلة بين الوزارة وبين المجلس الوطني». الأمر الذي يوضحُه مصدر عامل في المجلس «المراسل المُعتمد يجب أن يحصل على بطاقة من المجلس الوطني. ويختلف الأمر في بعض الحالات في ما يخصّ الإعلاميّ الذي يدخل البلاد بصفة موفَد». ويعزو مصدر من وزارة الإعلام تفاوت الحظوظ بين المراسلين في شأن نطاق العمل وحجم النشاط إلى «حيويّته المراسل وقدرته على التنسيق». الأمر الذي يبدو صياغةً مُلطّفة لحقيقة أن الأمر مرتبطٌ بعلاقات المراسل والوسيلة الإعلاميّة التي يمثّلها.




هل قلت بروباغندا؟

فرضت مراسلة قناة «روسيا اليوم» الناطقة بالعربيّة آنا كنيشينكو نفسها واحدة من أنشط المراسلين الميدانيين في سوريا. كنيشينكو التي أنجزَت عشرات التقارير خلال شهر تشرين الأول الجاري، لم تكتفِ بمواكبة العمليات العسكريّة، بل راحت تُنقّب عن موضوعات أخرى. قبل عشرة أيام أنجزت المراسلةُ تقريراً عن موقع رأس شمرا التاريخي في اللاذقيّة، لكنّ أحداً لا يعلمُ كيفَ خلصت كنيشينكو إلى أنّ التدخّل الروسي في سوريا قد «أعاد الحياة إلى أوغاريت». فالموقع الذي يبعدُ عن اللاذقية حوالى عشرة كيلومترات لم يشهد دخولاً مسلّحاً، أو يخرج عن سيطرة الدولة السوريّة. وبرغم أن الزوّار تناقصوا كثيراً بفعل الظروف العامة التي تمر بها البلاد، لكن الموقع بقي مفتوحاً أمامهم. تستضيف المراسلة في تقريرها القصير أحد العاملين في الموقع ليتحدّث عن «تراجع الإرهابيين من ربيعة، وكسب، ورأس البسيط بعد ما أجو إخواننا الروس»! وهو أمر يناقض حقيقة أنّ الموقعين الأخيرين كانا قد عادا إلى سيطرة الدولة السورية قبل الدخول الروسي على الخط بفترة طويلة.




«روسيا اليوم» ... «أم الصبي»

برزت قناة «روسيا اليوم» في الشهر الأخير بوصفها الأكثرَ مواكبةً للملف السوري. تشرح الزميلة ريمي معلوف، المذيعة في القناة، أنّ التغيير «لا يتعلّق بزيادة ساعات التغطية بقدر ما يتعلّق بمضمونها. تم إيفاد موفدة خاصة إلى القاعدة العسكريّة الروسيّة (آنا كنيشينكو)»، كذلك «عملت المحطة على إفراد تغطيات شبه يوميّة لتصريحات وزارة الدفاع الروسيّة، بحيث يتم عرض التصريح، ثم تغطيته مع المراسلين، ثمّ استضافة ضيفٍ لمناقشة المحتوى». ووفقاً لمعلوف، فإن الدافع وراء هذا النشاط هو «أن موسكو تواجه حرباً إعلاميّة غربيّة تستهدف الغارات والموقف الروسي». وبجولة على محتوى البرامج الحوارية خلال الشهر الأخير، ستبدو واضحةً زيادة الحصة السوريّة فيها. وعلى سبيل المثال، شهد الشهر الأخير تخصيص 22 حلقةً من أصل 29 من حلقات البرنامج اليومي «اسأل أكثر» لمناقشة قضايا سوريّة، في مقابل 10 حلقات من البرنامج نفسه خلال الشهر الذي سبق التدخل. أمّا برنامج «استوديو بيروت» الذي يُبثّ أسبوعيّاً، فقد خصّص ثلاثاً من حلقاته الخمس التي بُثّت منذ بدء العمليات لمناقشتها، فيما خصّص برنامج «استوديو واشنطن» (أسبوعي أيضاً) حلقاته الأربع خلال الشهر لمواكبة القضيّة ذاتها، الأمر الذي انطبق (بدرجات أقل) على برامج «قصارى القول» و«استوديو لندن» و«استوديو القاهرة» الأسبوعيّة.