بعد انكماش طويل استمرّ منذ فتح الجيش السوري وحلفائه «معركة حلب الكبرى»، بدا أمس أنّ الخطط التركيّة المضادّة قد استكملَت معطياتها. الظروف المناخيّة التي حدّت من فاعلية الغطاء الجويّ الرّوسي كانت آخر اللّاعبين الذين انضموا إلى المخطط، سبقَها في ذلك كلّ المجموعات المسلّحة الحاضرة في المشهد في حلب، بدءاً من تنظيم «الدولة الإسلاميّة»، مروراً بـ«جبهة النصرة» ووصولاً إلى المجموعات الصغيرة التي أُعيد إحياؤها تحت راية «الجيش الحر».
وخلافاً لما بدت عليه الصورة يوم الجمعة الماضي، اتّضح أمس أنّ الهجمات المنسّقة بين كلّ من «داعش» و«النصرة»، والتي أدّت إلى قطع طريق أثريا ــ خناصر، لم تكن مجرّد محاولاتٍ لفتح معارك جانبيّة تهدّد طريق الإمدادات القادمة من سَلَمية، وتشغلُ الجيش وحلفاءه عن استكمال زحفه نحو مطار كويرس العسكري شرقاً، ومواصلة عملياته ضدّ باقي المجموعات جنوب وجنوب غرب حلب. الصورة اكتملت مع بدء المعارك التي شنّها تحالف المجموعات المسلّحة على غير محور داخل مدينة حلب وفي محيطها. غرفتا «أنصار الشريعة» و«فتح حلب» فتحتا جبهات إشغالٍ في محيط مسجد الرسول الأعظم في حي جمعية الزهراء، وعلى محور شيحان، الأمر الذي تكرّر في معظم خطوط التماس داخل المدينة، لا سيّما المدينة القديمة. التحرّك الأخطر شهدته الأطراف الجنوبيّة للمدينة التي شهدت أمس سقوط معمل الإسمنت في أيدي المجموعات، وسط أنباء عن اعتزام المسلّحين الانطلاق منها نحو حريبل في الريف الجنوبي.

التحرّك الأخطر
شهدته الأطراف الجنوبيّة لمدينة حلب
وحتى ليل أمس نجحت المجموعات في تحقيق جزء من أهداف التحرّك عبر تحويل الجيش من مهاجم على محاور عدّة إلى مُدافعٍ عن طريق إمداده وساعٍ إلى الحيلولة بين المجموعات وبين إطباق حصار على المدينة. حصار تسعى المجموعات عبره إلى فرض «طوق» يغلق المحيط الحيوي الجنوبي بأكمله، ولا يكتفي بنقطة الراموسة. ويكمل هذا المسعى سعي المسلّحين إلى قطع طريق «حلب ــ تل شغيب ــ السفيرة». نجاح المجموعات في تحقيق هذا الهدف سيكون كفيلاً بقلب المشهد في «عاصمة الشمال». وفي موازاة ذلك، يُتوقّع أنّ «داعش» سيحاول الاحتفاظ بتمركزاته الجديدة على طريف أثريا ــ خناصر، كما سيسعى إلى توسيع نطاق سيطرته محاولاً الوصول إلى طريق خناصر ــ السفيرة. وفي حال نجاح التنظيم في تحقيق هذا الهدف، إضافة إلى نجاح المجموعات في قطع طريق حلب ــ السفيرة، ستكون النتيجة أن منطقة السفيرة ستقع بين فكّي كماشة. ولا يعني هذا أنّ الإطباق الذي يسعى إليه «داعش» و«النصرة» وباقي المجموعات هو هدف سهل المنال، فالمساحة التي يسيطر عليها الجيش كبيرة بحساب الجغرافيا، والعديدُ المتوافرُ في السفيرة ومحيطها لا يُستهان به. وهي معطياتٌ لا شكّ في أنّ مخطّطي ومنسّقي الهجمات ضدّ مواقع الجيش يعونها جيّداً. وإذا كان تحقيق هذا الهدف صعباً وفق المعطيات العسكريّة، فإن الأمر مختلفٌ في شأن نجاح المتحالفين في إجبار الجيش على إيقاف عملياته، سواء في اتجاه مطار كويرس أو في اتجاه أوتوستراد حلب ــ دمشق، والكف عن محاولات الالتفاف غرباً نحو خان العسل وما بعدَها. مصدر عسكري سوري قال لـ«الأخبار» إنّ «تحقيق هذه الأهداف ضربٌ من الخيال». ويضيف: «في كل المعارك قد تضطرّ إلى تحويل مسار عملياتك مرحليّاً بغية تأمين الخطوط الخلفيّة، لكنّ هذا الأمر لا يعني العودة إلى النقطة الصفر». المصدر أوضح أنّ «التطوّرات قد تمنح العصابات المسلّحة فرصة التقاط أنفاسها وتعزيز دفاعاتها، والاستعداد للمعارك القادمة في الريف الجنوبي. ووفقاً للمصدر نفسه، فإنّ «العمليات ستركّز خلال الساعات القادمة على امتصاص الفورة، والرد بهجمات سريعة تعيد الأمور إلى نصابها». في الوقت نفسه، قال مصدر في «غرفة عمليات فتح حلب» إنّ «الدوائر بدأت بالدوران على الباغين»، مؤكداً لـ«الأخبار» أنّ «الانتصارات المتتالية التي حقّقها الإخوة على كل المحاور لم تأت من فراغ، بل نتيجة تضافر الجهود وتوافق جميع الفصائل على صدّ صيال النصيريين وحلفائهم». وكشف المصدر عن «تشكيل غرفة عمليات مركزيّة بمشاركة قياديين عسكريين كبار، تولّت خلال الأيام الماضية التخطيط الاستراتيجي للمعارك الدائرة وما سيليها». وشدّد على أنّ «الغرفة تتولى تنسيق العمليات على كل المحاور، وبمشاركة كل الفصائل بمختلف مشاربها». ولدى سؤاله عن سريان هذا الكلام على تنظيم «داعش» على وجه الخصوص، امتنع المصدر عن الإجابة، واكتفى بتكرار «كل الفصائل، الكل». ومن المسلّم به أن تنسيقاً من هذا النوع لا يمكن له أن ينجحَ من دون إدارة إقليميّة مباشرة، رأس حربتها تركي. ويبدو منطقيّاً الربط بين المستجدّات الميدانيّة والتطوّرات السياسيّة التي عكست في الأيام الماضية فشل اجتماع فيينا في الوصول إلى رأس خيطٍ توافقيّ بين المجتمعين. ومن الواضح أنّ المحور الداعم للمجموعات قد بدأ تطبيق حزمة خطوات تشمل رفع وتيرة الدعم وتسخين المشهد منعاً لاستمرار انكفاء المسلّحين، وبغية تحصيل أوراق قوّة تدعم مواقفها السياسيّة.




الحلبيّون يعيشون هاجس الحصار مجدّداً

تطوّرات الأيّام الأخيرة عكسها الشارع الحلبي سريعاً، في شكل مخاوف من تكرار سيناريو حصار 2013 الشهير. ورغم أن طريق أثريا ــ خناصر سبق له أن خرج من الخدمة مرّات عدة في العامين الأخيرين، غيرَ أنّ الأمر لم يكن يتجاوز ساعات معدودة. استمرار «داعش» و«النصرة» في قطع شريان المدينة ترك بصمتَه أمس على أسواق حلب، وسط مخاوف من تفاقم الوضع في ظل المستجدات التي أفضت إلى سيطرة المجموعات على الرّاموسة. وفيما يعني قطع طريق أثريا ــ خناصر انقطاع بعض السلع القادمة من حماة، مثل الدجاج والحليب والألبان والأجبان، فإنّ إغلاق طريق السفيرة ــ حلب يُنذر بمضاعفات أخطر عبر وقف تدفّق الحبوب والمواد الغذائيّة والخضر القادمة من جبرين والسفيرة. وتنضم المحروقات إلى قائمة المواد الضروريّة التي يخشى الحلبيّون توقف إمداداتها، ما يفسح المجال أمام تجّار الأزمات لفرض قوانينهم التي وُضعت حلب تحت رحمتها مرّات عدّة منذ بدء الحرب.