مصر جديدة خرجت من رحم ذكرى تحرير سيناء، إلا جزيرتين! حضرت السعوديّة، ومصر الرسمية، وغُيّب الشعب (أعداء الوطن) الرافض لبيع الأرض. أدوات التخويف طازجة (الدبّابة، والمدرعة، والبندقية، والاعتقالات العشوائية، والطبل والزمر). احتفالات مُعلبة أمام قصر عابدين، وميدان مصطفى محمود، الشهيرين، في القاهرة والجيزة. احتفال آخر، في ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية. القوات جاهزة لتأمين الإيقاع. رجال الأعمال، المتصالحون أخيراً مع النظام، كانوا الرعاة الرسميين، والمنتجين الحصريين. يقدمون السبت.
البرّ والبحر والجوّ تحت السيطرة. القوات البحرية موجودة والآليات العسكرية أعادت انتشارها، والسماء المصرية أُغلقت لتنفيذ العروض الجويّة وحماية المُحتفلين بتسليم السعودية جزيرتين مصريتين. الأعلام تساقطت من فوق الغيوم، فوق ميدان عابدين. الجماهير المنقولة في «ميكروباصات» تلقت كوبونات السلع المنزلية بالزغاريد وبالتهليل. وسط القاهرة في عُهدة المحتفلين: «السيسي حامي الحِمى».
بنجاح، سمّمت سلطة السيسي أجواء الاحتجاج الشعبي ضد اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية. الأمن خطف المتظاهرين من الشوارع والبيوت وحتى «البالكونات». كذلك الأماكن التي أُعلنت نقاط تجمع للمحتجين اختطفها مؤيدو السيسي. السلطة، التي ترفض توقيع اتفاقية ترسيم حدود عادلة بينها وبين شعبها، بثّت الرعب في نفوس الناس.
عشيّة اليوم الموعود: تحريض مُبطن وظاهر في كل اتجاه؛ رجال الدين، والسياسيون، والمنصّات الإعلامية، صوبت هجماتها، على «أعداء الوطن والدين»، الذين يرفضون بيع التراب الوطني (النيابات العامة وجهت إلى عشرات المعتقلين، تهم الترويج لشائعة أن صنافير وتيران مصريتان). «مصر بلد المعجزات. عادي جداً». يُعلق المحامي الحقوقي، مالك عدلي، المطلوب ضبطه وإحضاره بالتهمة السابقة.
إخراج المشهد كان معدّاً من ثلاثة أيام. استُحضر القطيع المطاوع ــ المهاود (مواطنون شرفاء، ورجال شرطة بزي مدني، وبلطجية). عرضت سلطة السيسي بضاعتها في مزاد الوطنية، فمرّ المؤيدون. كان من الصعب جداً، أمس، النفاذ إلى الميادين، من دون حمل رُخصة سير (العلم السعودي، وصور السيسي، والبيادة... العلم المصري وحده لا يكفي). المجال الجوي أُغلق بسبب العروض الجويّة.
كل الفضائيات والصحف المصرية الصادرة، تحيّي الرئيس المُنتصر على شعب (مصر مُش للبيع). تُطمئنه: «كلنا معاك يا سيادة الرئيس. تحيا مصر». تتبنى مضموناً واحداً: «انتصرنا على الأعداء، الجيش والشعب أجهضا خطة تخريب مصر. السيسي حبيب الملايين». تُثمّن السلطة أهمية هذا اليوم الصعب. في مقبل الأيام، ترسّخ مصر ــ السيسي أقدامها أكثر، ويوافق البرلمان على اتفاقية ترسيم الحدود، بالأغلبية، وفوقها قُبلة على جبين الملك سلمان.
المراقبون يذهبون إلى أن السلطة ستتمادى أكثر، وتُعلن نقل رُفات ثورة يناير إلى مكان مجهول. معقول؟ جمال عيد (الحقوقي البارز) يقول إن «المعركة لم تنته. جولات الثورة تحتاج النفس الطويل». الحقوقي المُندهش من عروض أمس، يقول إن «شرعيّة السيسي سقطت. هذا نظام غريب فعلاً».
رسائل الرياض وصلت. سعْودة مصر باتت ظاهرة للمتابعين. منذ أيام، مذيع سعودي يقدم نشرة أخبار في تلفزيون الدولة (ماسبيرو). الأعلام السعودية الكثيفة في شوارع القاهرة كان لها صدى في مجلس الشورى السعودي، الذي انتظر يوم 25 أبريل (نيسان)، حيث اعتزم المصريون، معارضة اتفاقية ترسيم الحدود المذكور، ليوافق بالإجماع على عودة جزيرتي تيران وصنافير، إلى المملكة.
غاب «الإخوان» عن المشهد. أخونة الداعين إلى الاحتجاج كانت واضحة، وأثرت في المشهد. لم تظهر الأعداد الكبيرة من أنصار الجماعة، كما قالوا. مظاهرات بسيطة في أحياء في محافظة الجيزة، وأخرى في الإسكندرية وبني سويف، سُرعان ما أُجهضت بالقنابل المسيّلة للدموع، والخرطوش.
رجال وزارة الداخلية كانوا في حالة استنفار كبير. فرضوا قواعد اللعبة على الأرض. شروط التظاهر السلمي مُنعدمة. القبض طاول الجميع، حتى الصحافيين الأجانب. انطلق قطار القمع، فكان سيداً للموقف، وأجّل المواجهة، مع نظام السيسي. حاصر الأحزاب السياسية المحسوبة على ثورة يناير، ونقابة الصحافيين، وحاول اقتحامها. هل ستكون هناك مواجهة جديدة؟
الصحفي عمرو بدر، وهو رئيس تحرير «بوابة يناير»، وأحد المُلاحقين، يقول إن «الحراك الشعبي بدأ ضد السيسي، ولن يتوقف. يجب أن نضع هذا النظام تحت ضغط دائم. هذا التأهب الكبير، من الدولة، بكافة أجهزتها دليل على أن المعارضة الشعبية جزء من المعادلة».