رام الله | على المدخل الشمالي لمدينة البيرة، وبالقرب من حاجز مستوطنة «بيت ايل»، أتى أحد الفتية مبكراً قبل تجمع الشبان المتظاهرين. خلع قميصه ولفه حول رأسه. كان الصحافيون المستعدون لاندلاع المواجهات ينظرون إليه بدهشة وتخوف. فالفتى الذي لم يتجاوز طوله متراً ونصف، تلثم وبدأ بتهيئة المقليعة الصغيرة وبضع أحجار. وما إن اندلعت المواجهات، حتى صار أحمد ابن الثالثة عشرة، بين المتظاهرين، بل في صفوفهم الأولى.
أحمد عبد الله شراكة، الذي اعتاد أن يشارك في المواجهات التي تندلع على مدخل مخيمه، الجلزون، شمال مدينة رام الله، استشهد قبل أسبوع بعدما تلقى رصاصة في مؤخرة رأسه، أدت إلى نزف دماغي أودى بحياته.
«سبعة شواقل (نقود)، كيس شيبس، قفازات، مقليعة وكوفية مصبوغة بالدم»، هو ما تركه أحمد لعائلته المقيمة في الجلزون. وشراكة، عائلة معروفة في المخيم بنضالها الممتد على أجيال، وكانت قجد لجأت من قرية بيت نبالا إحدى القرى المهجرة في مدينة اللد، إلى المخيم في عام 1949م، وعاشت كغيرها من العائلات اللاجئة ظروفاً اجتماعية واقتصادية وسياسية سيئة، كذلك شارك أفرادها من الجد إلى الأب في الخط النضالي.
والد الطفل شراكة وأعمامه تعرضوا للاعتقال والإصابات عشرات المرات، وقضوا سنين يناضلون ضد المحتل. ولعل الأقرب والأكثر تأثيراً في حياة الطفل شراكة كان عمه خليل الذي استشهد قبل أن يولد أحمد بعام واحد. تؤكد ذلك جدته عالية يوسف، وتقول: «زرنا قبر جده وقبر عمه خليل العيد الماضي، سبقنا إلى القبر ووجدناه ممدداً بين القبرين! وقال: حين استشهد ادفنوني هنا، بجانب عمي خليل».
تضيف الجدة: «كان أحمد طفلاً عنيداً ولكن مهذباً. ترك المدرسة في العام الماضي لأنه كان مهتماً ومنشغلاً بالمواجهات أكثر من أي شيء آخر. طالبناه بالعودة ونصحه أساتذة المدرسة بذلك لكنه عنيد جداً».
تنظر والدته هدى شراكة، التي بدا الضعف عليها واضحاً إلى صورته. تبتسم وتقول: «كان يحب السباحة وكرة القدم، وكلما كان لديه وقت فراغ، كان يذهب إلى عين الحمام أو عين العصافير في المخيم ويسبح هناك مع أصدقائه». توضح الأم أنه كان دائم الاهتمام بشكله وشعره، رغم أنه كلما عاد من المواجهات يكون وجهه قد اسودّ بسبب الحجارات والإطارات المشتعلة. تضيف بقلب محروق: «الله يرضى عليك يما، يا حبيبي يما».
كان أحمد صاحب شخصية قوية يختار ملابسه بنفسه. يحب اللون الأسود والأزرق ولبس «الجينز»، وكان دائماً يحمل حقيبته التي أطلق عليها والده «حقيبة التموين»، وفيها دائماً «كوفية وقفازات ومقليعة أو مقليعتين وشوية أكل». اللافت أن أحمد كان دائماً قائد المجموعة بين أصدقائه عند المشاركة في المواجهات المندلعة قرب مدرسته بجانب «بيت إيل».
أحمد هو الثاني في ترتيب إخوته بين سبعة أبناء، عدي (15 عاماً) هو شقيقه الأكبر وهو الأخ المسالم الذي لم يشارك يوماً في المواجهات. يقول: «لست جريئاً مثل أحمد، أحمد أزعر ولا يخاف. أنا سمعت قصصاً من أعمامي وأبي عن المواجهات والإصابات ولا أجرؤ على المشاركة فيها. أحمد كان ينام بجانبي ودائماً كان يحكيلي عن فلسطين وعن حبه للأقصى والقدس».
أما حنين، فهي التوأم التي تشارك أحمد ليس العمر وشكل الوجه، فقط، بل الأحلام والآلام والأسرار أيضاً، «كان يوصلني كل يوم ويقول لي دائماً: إذا حدا ضايقك بس احكيلي. أحمد كان رجلاً صغيراً وأنا مخزن أسراره».
«أحمد بالجنة»، هكذا أجابت أخته فلسطين (9 سنوات) عندما سألناها: أين أحمد؟ وتقول: «اشتقت له، اشتقت يلعبني. قبل ما يستشهد بيوم اشترى لي الكثير من الشوكولاته.

عائلة شراكة معروفة
في مخيم الجلزون بنضالها الممتد على أجيال
أحب أحمد وأكره إسرائيل لأنها قتلته». اعتاد احمد أن يشتري في العيد «بارودة بلاستيكية»، ووعد ابن عمه إسلام (10 سنوات) أن يشتري له بارودة أيضاً في العيد المقبل. لكن بارودة الاحتلال كانت أسرع من أحمد ومن وعده الذي استشهد قبل أن يفي به.
«الرجل الصغير» الذي كان على وشك أن يصبح بطول والده لم يعد يذهب للصلاة معه، ولن يزور الجيران، ولن يطلب منه أن يحكي له قصصاً عن الانتفاضة الأولى والثانية. يقول والد شراكة: «مرّ أسبوع على استشهاده، ما زلت أنتظر أن أراه يدخل من الباب، وما زال أبناء أعمامه ينادون عليه في نومهم. أحمد أصيب عدة مرات بالرصاص المطاطي في يده وقدمه ولكن هذه المرة، كما يقولون الثالثة ثابتة. قضت عليه. وعلينا والله».