عادة ما تبدأ حكاية اعتقال الفلسطينيّ على يد الاحتلال، من تلك اللحظة التي يُكبّل فيها الجنود يديه ويعصبون عينيه، ثم يلقونه "بفظاظة" داخل الجيب العسكريّ. سواء أتم الاعتقال بعد تطويق بيت واقتحامه، أم عند أحد الحواجز العسكريّة.اللحظات القاسية في رحلة الاعتقال تبدأ في الجيب العسكريّ نفسه، إن لم تبدأ باكراً في مكان الاعتقال. وتختلف القساوة بالطبع بحسب المعتقل ومدى خطورته، وتبعاً لتوصية الضابط المسؤول عن الاعتقال. يتلقّى المعتقل المكبّل لكمات الجنود "من حيث لا يحتسب"، فيكون ملقىً على ظهره أو بطنه (حسب أين حطّ بعد "رمية" الجنود)، رأسه عند "بساطيرهم"، (الحذاء العسكري) أو في وضعية لا يقدر حتى على تخيّلها. وتستمر الحال على هذا الشكل، إلى أن يصل محطة الاعتقال الأولى.
قد تحتاج المسافة إلى عدة دقائق، وقد تأخذ ساعات يحسّ بها المعتقل "كألفٍ ممّا تعدّون".
هذه هي الصورة المعهودة دوماً. لكن تغيّراً لاحظه عددٌ ممن اعتقلوا أخيراً، وأسهمت في خلقه وسائل التواصل الاجتماعي وهواتف ذكية يمسك بها جنودٌ أغبياء!

فغزو الإعلام الجديد بكلّ ما قيل عن ميزاته ومساوئه، يبدو "برداً وسلاماً" على من اعتقلوا أخيراً. فالتهاء الجنود بهواتفهم الذكية، طالما جنّب المعتقلين مزيداً من لكمات الجنود العشوائية.
الحال عند الجنود مختلفة بعض الشيء. لتتضح الصورة أكثر. نعيد مشهد الاعتقال، لكن هذه المرّة ثمّة أجهزة "آيفون" و"غالكسي" بأيدي الجنود. ما أن تعصب عيني المعتقل، حتى يبدأ الجنود طقوسهم الجديدة: لا بأس بصورة "سيلفي" مع المعتقل المعصوب العينين. آه الصورة ليست كما يجب؟ يلتقط أخرى ويرفقها بعبارات أخرى بالعبرية "داعش، إرهاب، مخرب، سيلفي، واتس آب..". جنديّ آخر يطالب بحقّه في مشهد فيديو لحسابه في "انستغرام". المعتقل على أعصابه، لكنّ الجنود منشغلون عنه... بتصويره!
وإلى المشهد الثاني حيث المعتقل ملقىً على أرضية الجيب. الجنود يأخذون أماكنهم، يستلّ كلّ منهم هاتفه، وتبدأ أصوات طقطقة أزرار الجهاز الذكيّ... يتحدّثون بالعبرية، قهقهات... سيلفي... أصوات تغريدات ومحادثات واتس آب. القهقهات تعلو. المعتقل يترقّب، يحاول رفع رأسه ليفهم ما يدور حوله، ينتبه لحركته أحد الجنود، فيسدد له لكمة مع شتائم بالعبرية. المعادلة باتت أوضح بالنسبة إلى المعتقل: الجنود الكسالى الذين كانوا يتثاءبون لحظة اقتحام البيت يحاولون قتل الوقت بهواتفهم. لحظة المواجهة الفعلية مؤجلة "نوعاً ما". لمَ لا؟!
في مركز التحقيق، كرسيّ "الشبح" الحديديّ القصير خُصّص لجلوس المعتقل أثناء التحقيق الذي قد يمتدُ لوقتٍ طويل. مُحقّق "الشاباك" يوجّه للمعتقل سؤالًا حول قضيته، وقبل أن يفكّر الأخير في الإجابة، ثمّة مكالمة "تانغو" على ما يبدو. يخرج المحقق الإسرائيلي ومعه هاتفه، ويغلق الباب. يشعر الشاب بالارتياح "مؤقتًا"، أزاح عنه الموقف عناء الإجابة السريعة، أمامه بعض الدقائق ليُلملم الشتات الذي تركه في نفسه وقع سؤال محقق الشاباك!
يرجع المحقق مرّة أخرى، يُعيد طرح السؤال نفسه على الشاب المعتقل الذي حظي بفرصة ليلملم شتات نفسه، واستغرق في "نومة خفيفة" في مكتب التحقيق المُكيّف، بعد أن حُرم النوم في الزنزانة. يصحو الشاب، سيحكي روايته التي اختلقها في دقائق. يوقفه محقق الشاباك المُنشغل الآن بالردّ على محادثة "واتس آب" تستمرُّ طويلًا! ثم يتذكّر بعدها أن لديه معتقلاً من المفترض أن يحقق معه... يسأل المحقق الشاب: "وين صرنا؟"، يجيبه المعتقل: هـااا!! مصحوبة بضحكة ساخرة.
المعتقل اكتشف، للمرّة الأولى، أن هناك فوائد أخرى غير تلك التي قرأ عنها، لكل هذه التطبيقات التي تملأ شاشة هاتفه "واتس آب، تانغو، فايبر، فايسبوك". كيف لم يفكّر في ذلك من قبل؟!