لا تفوت الغزاويين مناسبة لتذكّر بالوضع المزري الذي وصلوا إليه بفعل الحصار الخانق للقطاع على مدى العامين الماضيين. عيد الأضحى هذه المرّة كان المناسبة. الكثير من أهالي القطاع لم يستطيعوا إحياء العيد كما كانوا يفعلون في السابق. لا أضاحي ولا ثياب جديدة. مجرّد بهجة مصطنعة للتماشي مع مسمّى «العيد»
غزة ــ قيس صفدي
لم يتمكن صالح أبو ليلة من شراء أضحية عيد الأضحى كما اعتاد منذ أكثر من عشرين عاماً. السبب يعود إلى الارتفاع غير المسبوق في أسعار المواشي، التي تمنع سلطات الاحتلال تزويد قطاع غزة باحتياجاته منها منذ تشديد الحصار قبل أكثر من عامين.
صالح فقد كل ما يملك تحت أنقاض منزله، الذي هدمته قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال العدوان على غزة الذي انتهى في 18 كانون الثاني الماضي بعد 22 يوماً من القتل والتدمير.
يبدو صالح حزيناً لعدم تمكنه من شراء الأضحية، وإسعاد أطفاله. يتساءل بمرارة: «من أين لي ثمن الأضحية والحال كما ترى؟». ويقطن صالح وأسرته المكونة من 16 شخصاً في خيمة لا تتوافر فيها مقومات الحياة، حاله كحال المئات من جيرانه في «مخيم الثبات» الذين فقدوا منازلهم شمال القطاع خلال الحرب.
وفاقت أسعار الأضاحي في غزة مثيلاتها في الدول المجاورة بأضعاف، إذ بلغ ثمن نصيب الشخص الواحد في عجل يشترك فيه سبعة أشخاص نحو 650 دولاراً، فيما بلغ سعر الخروف المتوسط الحجم نحو 300 دولار.
ولم تسدّ العجول والأبقار المصرية المهربة من الأنفاق المنتشرة أسفل الحدود الفلسطينية ـــــ المصرية جنوب القطاع العجز في المواشي المستوردة، لكونها صغيرة السن ولا يجوز ذبحها كأضحية، بحسب شروط الشريعة الإسلامية.
وكما منعت الظروف الاقتصادية السيئة وغلاء الأسعار صالح من شراء الأضحية، حرمته أيضاً من إدخال البهجة إلى أبنائه وشراء ملابس العيد الجديدة. ويبدو صالح، المريض بالسكري والضغط، عاجزاً عن إيجاد إجابة واضحة للكثير من أسئلة أولاده المليئين بآمال السكن في بيت جديد، فهو لم يعد يقوى على العمل بعد تدهور حالته الصحية من كثرة حزنه وقلقه مما آلت إليه أحوال أسرته. ولا يتوقف عن القول: «كل شيء صعب هنا، ما في غير ربنا عالم بالحال».
ويترك صالح الفرصة لابنه وليد (6 أعوام) بعينيه السوداوين، وشعره المجعد المائل إلى الصفار، ليتحدث عما أصاب أسرته. يقول إن «اليهود هدموا بيتنا في الحرب، وقتلوا جيراننا وأصحابنا، وشرّدونا وخلّونا من غير دار، وسكنّا في خيمة، وكمان دار سيدي ساكنين في خيمة عشان دارهم انهدّت، وأنا كتير بحب أروح عندهم، مع إنه عندهم برد زينا، بس خيمتهم أكبر وأحلى منا، وأنا ما عندي أواعي (ملابس) جديدة للشتوية، وما اشتريت أواعي للعيد».
خابت آمال أهالي الأسرى في غزة بقضاء أبنائهم عيد الأضحى معهم بعد تعرقل صفقة التبادل
ويدرك وليد حقيقة ما آل إليه حال والده. يقول: «أبويا بيحبنا، لكن مش قادر يشتري إلنا بيت وأواعي، وما قدر يشتري خروف العيد، علشان غزة محاصرة واليهود مسكرين المعابر، وأبويا ما بيشتغل».
ويعتمد أكثر من 80 في المئة من سكان غزة، وغالبيتهم من اللاجئين على مساعدات إغاثية تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» ومؤسسات خيرية أخرى، في وقت تجاوزت فيه نسبة البطالة والفقر أكثر من 60 في المئة.
ويبدو الحديث عن العيد واحتياجاته ترفاً لدى مشردي الحرب، الذين يقيمون في خيم تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، ويعيشون ظروفاً مأسوية أصابت الكثير من أطفالهم بالأمراض بسبب الرطوبة والبرد.
مجدي غبن يعيش مع أسرته في خيمة أذاقته الويل منذ بداية الشتاء، إذ إنها مهترئة وممزقة، تدخل المياه إليها من كل ناحية، وتخترقها الرطوبة من دون رفق ولا رحمة. حين تسأل مجدي عن العيد والأضاحي وغلاء الأسعار، تسحبه معاناته للحديث عن الظروف التي يعيشها منذ فقدان منزله في الحرب. يقول: «لا ملابس. لا فراش. لا ماء. لا كهرباء. لا شيء يريح. من الجيد أساساً أن هناك خيمة. وفي الآخر حنّ علينا أهل الخير وأعطونا فراشين وبطانيتين، مثلي مثل أصحاب الخيم الثانية. على فكرة بيعطوا فراشين وبطانيتين لكل خيمة، إن شا الله بيكون فيها مليون واحد. كتّر خيرهم والله».
ويواصل مجدي: «قمنا بالاشتراك معاً بشراء لفّات البلاستيك، وأغلقنا الثقوب في الخيام، ولا أحد ينظر إلينا أو يسأل عنا ليعرف على الأقل احتياجاتنا. ذهبنا مراراً وتكراراً إلى المسؤولين لنطرح عليهم مشاكلنا، ونضعهم في صورة الوضع، ولكن لا حياة لمن تنادي. سنة من حياتنا مرت بعد انتهاء الحرب، والحال هي هي، لم يتغير شيء وكل عام وأنتم بخير».
ويؤكد تجار وأصحاب مزارع مواشٍ في غزة أن حركة إقبال المواطنين على شراء العجول في عيد الأضحى كانت «ضعيفة وخجولة». ويقول أبو علي الهوبي، صاحب مزرعة مواشٍ، إن غالبية زبائنه أحجموا عن شراء عجل العيد بسبب الارتفاع غير المسبوق في الأسعار. ويضيف أن الكثير من المواطنين الذين اعتادوا الاشتراك معاً في عجل فضّلوا هذا العام التضحية بخراف لكونها أقل سعراً رغم الارتفاع في أسعارها أيضاً.
واضطر رائد مفيد إلى شراء خروف صغير مهرّب من مصر عبر الأنفاق نزولاً عند رغبة أبنائه الصغار. ويقول إنه اعتاد سنوياً الاشتراك مع مجموعة من أصدقائه في عجل للتضحية به في عيد الأضحى، مضيفاً أن «الغلاء الفاحش في أسعار العجول حال دون تمكنهم من شراء عجل».
ويشير رائد إلى أنه «تمكن من شراء ملابس العيد لأطفاله بعدما أقنع البائع بشراء كل ما يلزم أطفاله من بسطته الشعبية، ما شجّع البائع الشاب على الموافقة لإتمام الصفقة المغرية وخفض السعر والاكتفاء بربح قليل في ظل ركود في الحركة التجارية».
أما صاحب البسطة يحيى السوافيري فيقول إنه اضطرّ إلى خفض سعر معروضاته من ملابس الأطفال ليعوّض إحجام المتسوّقين عن الشراء نظراً إلى ارتفاع أسعار الملابس. وبرر ارتفاع أسعار الملابس، رغم توافرها بكثرة في غزة، بالتكلفة المرتفعة التي يتطلبها تهريبها عبر الأنفاق. وقدر نسبة ارتفاع أسعار ملابس الأطفال بنحو 40 في المئة مقارنة مع أسعارها في عيد الفطر الماضي.
سنة من حياتنا مرّت بعد انتهاء الحرب، والحال هي هي، لم يتغير شيء وكل عام وأنتم بخير
واضطر أبو محمد لبيع مساعدات غذائية تلقّاها من «الأونروا» وجمعيات خيرية والاستفادة من ثمنها المتواضع في شراء ملابس «مستعملة» لأطفاله من «سوق البالة». ويشعر أبو محمد بغصة وحزن في نفسه لعدم قدرته على شراء ملابس جديدة لأطفاله للعيد الثاني على التوالي، بسبب غلاء الأسعار والضائقة المالية التي يعاني منها. ويقول إنه «لم يقم بزيارات العيد لأرحامه وأقاربه لعدم امتلاكه العيدية، وقضى أيام العيد ملازماً منزله»، مشيراً إلى أنه عمل لأيام قبل العيد في معمل لإنتاج البلاط في غزة، إلا أن صاحب المعمل استغنى عنه بسبب محدودية نشاط هذه المعامل وعملها المتقطع بسبب عدم توافر المواد الخام.
وخابت آمال أهالي الأسرى في غزة بقضاء أبنائهم عيد الأضحى معهم بعد تعرقل صفقة تبادل الأسرى بين حركة «حماس» ودولة الاحتلال. وتقول عائلة الأسير نافذ حرز إن الحديث الذي سبق عيد الأضحى عن قرب إتمام الصفقة جعل الأماني كبيرة لديها بأن يقضي نافذ العيد معها للمرة الأولى منذ اعتقاله قبل 24 عاماً.
وتشير أم أحمد، زوجة الأسير نافذ، إلى «أن الأجواء المبشرة عن قرب إتمام الصفقة قبل العيد جعلت حلم اللقاء بنافذ قريباً، حتى إن حديثنا تركز على التجهيزات للاحتفال به قبل العيد، لكن فشل الصفقة أصابنا بالإحباط واليأس».
وتوضح أم أحمد أن زوجها نافذ اعتقل في 25 تشرين الثاني 1985 وكان عمره آنذاك (30 عاماً)، وحكمته سلطات الاحتلال بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل إسرائيلي والمشاركة في قتل آخر في مدينة غزة. وتضيف أنها صبرت طوال السنوات الماضية على فراق زوجها وتربية أبنائها بمفردها، وكانت تتمنى أن يكون زوجها ضمن صفقات التبادل ومبادرات إطلاق الأسرى بعد اتفاق أوسلو، لكن السنوات تلاحقت والعمر يمضي وزوجها يقبع في السجن.
وتقول أم أحمد: «بعد مرور ربع قرن على اعتقال نافذ، لم يبق لنا إلا أمل أن يكون ضمن صفقة التبادل الحالية»، مشيرةً إلى أن زوجها «عانى فترة طويلة من مرض الغدد الدرقية في عنقه ومكث في سجن الرملة سنة ونصف سنة يتلقى جرعات من العلاج الكيميائي، ولكن الحمد لله تحسنت صحته الآن وينتظر الفرج بفارغ الصبر وكل أمله أن تشمله الصفقة».
معاناة السنين بدت واضحة في ملامح وجه أم أحمد، التي تحملت عناء تربية ستة أبناء بعد اعتقال زوجها. تقول «إن جميعهم تعلّموا وتزوجوا. لم يبق في العمر قدر ما مضى، وليس لنا مطلب سوى خروجه من السجن وعودته إلى أسرته وأبنائه وأحفاده».


حجّاج القطاع يستذكرون الشهداء(أ ف ب)