الأنباء عن الاستيطان في القدس المحتلة صارت «طبيعية»، تماماً كما صارت الأنباء عن هدم بيوت الفلسطينيين وتشريدهم «طبيعية». آلات هدم تمضي من بيت إلى آخر، وصيحات أناس عزّل لا يقوون على كسر صوت المجنزرات... هنا القدس، مرة أخرى
القدس المحتلة ــ فراس خطيب
في صبيحة يوم أمس كان البرد المقدسي يُضفي جموداً على قرية العيسوية في القدس الشرقية المحتلة. توجّه عبد الحليم داري إلى عمله، وفي صدره «قبضة» ترافقه منذ شهور. عندما اقترب من مدخل البلدة ليخرج منها، شاهد دوريات معزّزة من الشرطة ترافقها الجرافات. فهم أنَّ الأقدار لن تنصفه، ويومه يخبئ ما لا تحمد عقباه. عرف أنّ هذه القوات ستتجه نحو بيته: «عدت بسرعة. حاولنا منع وصولهم ولم ننجح. فهم كثر».
القصة لم تكن وليدة الصباح. قبل أربعة أشهر تلقّت عائلة داري أمراً يقضي بهدم منزلها بحجة «البناء غير المرخص». منذ تلك «البشرى»، التي جاءت بعد ثلاثة أعوام من الضياع في أروقة البيروقراطية، صارت حياة العائلة رهينة انتظار «معجزة» تنقذها من واقع صار مألوفاً في حياة المدينة المحتلة. أمسى أفرادها، كما أفراد أي عائلة مهددة بهدم بيتها، يخافون من أي سيارة شرطة تمضي في شارع البلدة المتعبة، من أي ضجيج تحدثه أي شاحنة. يعيشون حياة شك لا يقطعها اليقين. فحتى لو تضامن الناس مع مصابهم، إلا أنه لا أحد قادر على وصف حال عائلة تنتظر عزلها عن مكانها وتشريدها في أي لحظة تذكر.
قد يكون هذا بعد لحظة أو ساعة أو يوم. ستأتي آلات الهدم، من دون أن تنذرهم، وستخرجهم من هناك. سيهدمون البيت، وسيمضون إلى بيت آخر بعد حين، في واقع فلسطيني لم يعرف سوى الهدم منذ سنوات. «لم نترك شيئاً إلاّ فعلناه، محامون واعتراضات وطلبات للبلدية، لكنَّهم لم يتراجعوا عن القرار»، قال رب العائلة، عبد الحليم داري لـ«الأخبار»، حين كان اليأس يغلف معاركه الأخيرة.
وصلت القوات المعزّزة إلى البيت. كان معظم أهالي القرية في أعمالهم. حاول بعض الشبان مقاومتهم، لكن من دون فائدة. هذه قوّات خاصة. أخرجت محتويات البيت كلَّها، وهُدم المنزل على مقربة من أصحابه، من دون الاكتراث لذكريات قد يكون البيت يجمعها. يقول داري: «بيت بنيناه على مدار سنوات، أنفقنا عليه تعب السنين وهُدم أمام أعيننا بلحظات ونحن عاجزون»، مضيفاً: «ابني عمره 18 عاماً، كاد يحترق دمه، كان ينظر إلى البيت كأن حياته تُهدم، في قلبه نقمة لا توصف. شعر بالعجز».
تصل مساحة البيت إلى 290 متراً. 120 متراً مسقوفاً. يؤوي عائلة من 6 أشخاص. وعائلة أخرى (إبراهيم داري) مكونة من 8 أنفار كانت تحضّر للانتقال إليه قريباً. قالوا في البلدية إنَّ المنطقة «ليست مرخّصة للبناء»، علماً بأنها موجودة في منطقة بين البيوت. وقد رفضت البلدية اقتراحات عديدة لترخيص المنطقة. غالبية أفراد العائلة هم من الأطفال. لم يرَ الأطفال الجرافات عندما هدمت المنزل، ولم يستقبلوها عند مشارف القرية. لكنّهم شاهدوا «ما كان بيتهم» عندما عادوا. ويعجز من يراهم في تحديد تلك الصدمة، ما الأصعب إذاً؟ أن يروا الجرافات تهدم أحلامهم؟ أم أن يعودوا من المدرسة ويجدوا بيتهم وأحلامهم ركاماً؟ إنَّها أسئلة تفتح مليون سؤال عن واقع القدس المحتلة، التي تحيا حقبة لا تحتمل: ضغط يولّد اليأس. حتى صارت المدينة الفلسطينية مشروع هدم بامتياز.
قصة البيت في العيسوية هي صورة مألوفة عن واقع يحياه المقدسيون. السياسات التي تشهدها المدينة المقدسة تعيش حالتها الأشرس، وسط صمت دولي يقتصر على التصريحات والإدانات. يقول أحد المقدسيين لـ«الأخبار»: «كل يوم يمرّ، تتسلل المخططات إلى شيء.

الاحتلال صدّق على بناء 900 وحدة سكنية في «جيلو» ورفض خطةً لبناء 200 وحدة فلسطينية
إذا كانت القدس مدينة هامّة للعالم العربي والإسلامي، لماذا لا يتحركون لنصرة أهلها، يهود أميركا يدفعون ملايين الملايين لتهويد المدينة، ما الذي فعله العرب؟».
إنّ سياسة الهدم هي استراتيجية متّبعة. تحاول البلديات المختلفة نقل قضية الهدم من حقلها السياسي الأصلي إلى «القانوني». عندما تقابل مسؤولاً إسرائيلياً لا يقول إنّ الهدم نفّذ لأجندة سياسية، ولتقليص الوجود العربي في القدس المحتلة، سيقول لك: «إنهم خارجون عن القانون». إنَّها السياسة ذاتها، استغلال القانون لحرمان الناس من أبسط الأمور الحياتية، ألا هو المأوى. وهذه ليست شعارات بمقدار ما هي حقائق، فالسلطات التي صدّقت على بناء 900 وحدة سكنية في مستوطنة «جيلو» في القدس الشرقية المحتلة، رفضت بالأمس خطةً لبناء 200 وحدة سكنية في أرض يملكها فلسطينيون في ضاحية صور باهر في القدس الشرقية المحتلة وهم بأمسّ الحاجة لتوسيع مداهم المغلق.
وقبل إنهاء السطور، تصلك أنباء أخرى، عن هدم آخر، على مقربة من باب المغاربة، في حي بيضون المقدسي. صارت الأنباء عن بناء المستوطنات الإسرائيلية أخباراً «طبيعية». استيطان في كل يوم، وهدم في كل يوم. أسئلة تبدأ من القدس، وتنتهي نهاية مفتوحة بسؤال: من سيوفّر للأطفال العائدين لتوّهم من مدرستهم مكاناً طبيعياً للحياة؟


العرب يدينون استيطان القدس

أثار قرار إسرائيل السماح ببناء 900 وحدة استيطانية في حيّ جيلو الاستيطاني في القدس المحتلة، ردود فعل عربية منددة. ورأى كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، أن «القرار الإسرائيلي يؤكد صوابية الموقف الفلسطيني من أن وقف الاستيطان يمثّل المدخل الوحيد لأي عملية سلام حقيقية وجدية»، محذراً من أن إسرائيل تريد أن تستبق نتائج أي مفاوضات من خلال فرض حقائق على الأرض». بدورها، دانت الحكومة الأردنية، في بيان رسمي، هذا القرار، مشيرة إلى أن «هذه الخطوة كغيرها من الخطوات الاستيطانية الأخرى والأحادية الجانب لن تُسهم في حل الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي بل على العكس ستمثّل تقويضاً لجهود إحلال السلام». ورأى وزير الخارجية الأردني، ناصر جودة، أن «هذه الخطوة تمثّل تحدياً جديداً وسافراً لإرادة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية».
وفي السياق، سمحت السلطات الأردنية لجماعة الإخوان المسلمين بتنظيم مهرجان جماهيري يوم الجمعة المقبل لنصرة المسجد الأقصى.
من جهته، رأى الناطق باسم وزارة الخارجية السعودية، أسامة النقلي، «أن الاستيطان، وبالخصوص في القدس الشرقية، يمثّل عائقاً كبيراً لعملية السلام». وشدد على أنه «إذا لم تتخذ إجراءات حاسمة (في تجميد الاستيطان) فسيكون من الصعب جداً المضي قدماً على طريق السلام».
بدوره، أدان المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، حسام زكي، القرار الإسرائيلي، واصفاً أياه بأنه «استفزازي ويعبّر عن قصر نظر بالغ». ورأى أنّ «من المؤسف أن تتصرف إسرائيل بهذا الشكل في خضم الاهتمام والمساعي الدولية المكثفة لكيفية الخروج من المأزق الحالي».
(يو بي آي، أ ف ب)