الغزيّون يصارعون المستحيلغـزة ــ قيس صفدي
قطاع غزة، شريط ساحلي صغير وفقير. ضُرب عليه حصار مشدّد مند نحو ثلاثة أعوام. حصار شمل كل مناحي الحياة وعطّل معظمها. لكن سكانه لم يستسلموا لهذا الواقع، وحاولوا بما توافر لهم أن ينتصروا على معادلة القهر التي مورست بحقهم. بدأوا البحث عن حياتهم ولو تحت الأرض، حيث الأنفاق التي اتخذوا منها معابرهم الخاصة إلى الحياة، وأصبحت نافذتهم نحو العالم. من هذه الأنفاق المنتشرة أسفل الحدود الفلسطينية ـــــ المصرية، جلبوا بضائع يحرمهم الاحتلال إيّاها، ويمنع دخولها من المعابر التجارية «المغلقة». منها، تواصلوا بعضهم مع بعض بعدما تحول السفر عبر معبر رفح الحدودي، وهو المنفذ الوحيد لغزة على العالم الخارجي، إلى «أمنية صعبة المنال».

سيارات مصرية

بعدما كانت أساس فكرة الأنفاق تنطلق من دعاوى المقاومة لجلب السلاح والعتاد اللازم لمواجهة المحتل، باتت اليوم منفذاً تجارياً لا يضاهيه شيء في قطاع غزة، في ظل الإغلاق التام للمعابر التجارية التي يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي. وبعد استيراد المواد الأساسية والطعام والمحروقات، بدأت أفكار المشرفين على تلك الأنفاق تتفتّح كل يوم على فكرة جديدة لمواجهة الحصار. آخر هذه الأفكار كانت جلب السيارات، التي لم تدخل إلى قطاع غزة منذ فرض الحصار عقب فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية الثانية مطلع عام 2006. ونمت الفكرة، بحسب وائل المغاري، أحد العاملين في مجال استيراد السيارات، بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، حيث فقد القطاع عدداً كبيراً من السيارات جراء القصف الجوي المكثف. لكن كيف يمكن لأنفاق لا يكاد يستطيع الإنسان أن يسير فيها مشياً على الأقدام منتصب القامة، أن يجري إدخال السيارات عبرها؟ يقول وائل: «ابتكر مهربو السيارات طريقة لذلك وعملوا ضمن خطة محكمة. تبدأ أولى مراحلها في مدينة الشيخ زويد شمال محافظة سيناء المصرية، حيث يجري تجميع السيارات المرغوب في تهريبها ونقلها إلى القطاع، ثم تُقصّ وتقسم وفق نظام ميكانيكي يمكّن الميكانيكيين الفلسطينيين في غزة، من إعادة لحمها وتركيبها، لتُنقل إلى داخل القطاع عبر أنفاق تتوافر فيها مواصفات خاصة، من حيث الاتساع وقصر المسافة، ومعدّات النقل والتنزيل والنقل، حتى لا تفقد قطعة السيارة أيّ جزء منها أثناء النقل».
وتابع وائل «بعد وصولها، تُنقل القطع إلى إحدى الورش الميكانيكية، حيث يجري تجميعها. وتحتاج إلى ظروف خاصة أيضاً من وجود معدات يمكن من خلالها إعادة وصل الأجزاء المنفصلة وتلحيمها لتصبح سيارة متكاملة طبق الأصل تماماً، وهذا يتوافر بكثرة في مدينة غزة، حيث الورش أكثر تجهيزاً منها في بقية مدن القطاع».
وعن أسعار هذه السيارات، يقول سعيد أبو طه، أحد التجار المتعاملين بها، إن «سعر السيارة داخل مصر يراوح بين ثلاثة إلى أربعة آلاف دولار فقط. لكن عملية قصها وتفكيك أجزائها تبلغ أربعة آلاف دولار، وأجرة نقلها داخل النفق ترفع تكلفتها أربعة آلاف أخرى. وتأتي بعد ذلك تكلفة تجميعها داخل ورشة ميكانيك ذات مواصفات خاصة. وتختلف هذه التكلفة، حسب نوع السيارة وطريقة قصها من الأساس لتصل إلى ألف أخرى، وهذا يعني وصولها إلى السوق بسعر يبلغ أحد عشر ألف دولار كمتوسط». ويضيف «أشهر أنواع السيارات التي يجري إدخالها إلى قطاع غزّة هي هيونداي فيرنا وجي أم سي وميتسوبيشي». ويؤكد أبو طه أن «عدد السيارات التي وصلت القطاع لا يزال محدوداً ولا يتعدى المئات. كما أن نجاح التجربة أو فشلها هو ما يحكم على الاستمرارية. والمرحلة الأخيرة هي أهم عوامل نجاح الفكرة أو فشلها، لناحية منح الترخيص لهذه السيارات».

.... وأخرى للسباق

هي ذاتها غزة التي تنتفض لتحيا رغم الحصار. سكانها لم يثوروا على حكامهم، مع أن أصحاب الحصار راهنوا على ثورتهم. إنهم مختلفون. خالفوا القاعدة. عندهم، «لم يوّلد الضغط الانفجار». بحثوا عن بدائل أخرى للحياة والإبداع معاً. كان آخر تلك الإبداعات سيارة إلكترونية تضاهي سيارات السباق العالمية، لكن بأبسط الإمكانات، بل بما توافر منها في غزة المحاصرة.
المهندس أحمد صيدم، المتخصص في هندسة الإلكترونيات، هو صاحب الفكرة والإشراف على هذا الاختراع. يقول «لم أكن وطلابي نتوقّع أن تصبح الفكرة، التي راودتني في يوم من الأيام، واقعاً ملموساً على الأرض، وخصوصاً في مثل هذه الظروف التي تمر بها غزة». وأضاف «بداية المسيرة كانت رسالة لمشروع تخرج جامعي للطلاب، وكانت هناك مسابقة عالمية تنظّمها إحدى الجامعات البريطانية، تتعلق بآخر الاختراعات والإبداعات الخاصة بالسيارات، بمشاركة عدد كبير من المعاهد والجامعات، من خلال تجميع سيارات بمواصفات معينة للدخول في المنافسة. قررنا المشاركة في تلك المسابقة من باب الاحتكاك، الذي قد يكسبنا الخبرة اللازمة في الاستمرار».
ويشير صيدم إلى أن أكثر المتفائلين «لم يكن يتوقع أن يُنجَز العمل بهذا الشكل، نظراً إلى ما تعانيه غزة من نقص حادّ في جميع جوانب المواد الأساسية المستخدمة في عملية التصنيع». إلّا أنه «وبالاعتماد على موادّ أقرب إلى المواد الأصلية، مثل استخدام مادة الفيبر غلاس بديلاً لهيكل السيارة الخارجي، إلى غيره من التفاصيل، نجح العمل وخرج إلى الضوء كأول إنجاز فلسطيني عربي من المقرر أن يشارك في المعرض المزمع عقده في بريطانيا عام 2011».
ويشرح صيدم «صنع هذه السيارة جرى في قسم هندسة إلكترونيات السيارات بمشاركة ستة طلاب واصلوا الليل بالنهار طوال شهرين كاملين للوصول إلى هذه النتيجة». ويرى أن «صنع سيارة كهذه من جانب شبان لا يملكون الخبرة كان التحدي الثاني، الذي وقف خلاله كل المختصين من متابعي المشروع وراء نجاحه. وكان توفير المواد والمعدات يأتي في المرتبة الثانية من الصعوبة، حيث استُعين في كثير من الأحيان ببعض المعدات المستخدمة، التي استُصلحت للعمل. أما الدخول في تفاصيل العمل، فكان العقبة الثالثة، من وصل الأسلاك الكهربائية بعضها ببعض. إلّا أن حال التفاؤل كانت تزيد لحظة بعد أخرى، وكلما أنجز شيء من العمل كان الدافع أكبر على الاستمرار».
ويضيف صيدم «إنهم الآن في طور إدخال بعض التعديلات الطفيفة، التي من شأنها رفع كفاءة السيارة كثيراً، لتتطابق مع المواصفات العالمية المطلوبة. وتنوي إدارة الكلية صنع سيارات أصغر حجماً في المرات المقبلة، ما يقلل التكلفة، ويزيد من كفاءة المنتج»، الذي يتمنى أن يصبح في يوم من الأيام منافساً في سوق محلية، وربما في السوق الإقليمية مستقبلاً.

تهريب البصل

من السيارات إلى البصل. لكل مشكلة حل لدى الفلسطينيين في غزة. هل يصدّق أحد أن سكان قطاع غزة، وبعد انقطاع البصل عنهم بحجة أنه من البضائع الممنوعة «إسرائيلياً»، جلبوا البصل من مصر عبر الأنفاق. فعلها أهل غزة، ونقلوا أطناناً من تلك السلعة الغذائية المهمة في المطبخ الشرقي. لم يعجزهم طول المسافة ولا ارتفاع التكلفة.
ورغم توفيرهم البصل، ما زالت سلع كثيرة تنقص الغزيّين، فيحاولون بطرق شتّى الاستعاضة عنها، والتغلّب على نقصها. منها الموصلات الكهربائية التي شحّت في الآونة الأخيرة من السوق إلى درجة انعدامها في كثير من الأحيان. وجد أهل غزة ضالّتهم في عملة النصف شيكل المصنوعة من مادة النحاس. وبعد التجربة، اتضح أنها موصل جيد للتيار الكهربائي، فكان التفكير في استغلالها للاستفادة منها في سد هذا النقص.
ويقول وسام أبو صالحة، صاحب محل لبيع الأدوات الكهربائية، «بعد معرفة أصحاب المهنة أن عملة النصف شيكل المعدنية موصل جيد للكهرباء، بدأ التفكير يتجه نحو إعادة تصنيعها لتستخدم في هذا الغرض. أولى المراحل تمثلت في جمع كمية كبيرة من هذه العملة من السوق، ثم صهرها في أفران خاصة ليسهل تكوينها، لتُستخدم لاحقاً كموصلات ومقابس كهربائية سعرها يناسب مستوى المعيشة، ودخل الناس المحدود بفعل الحصار. وبالفعل نجحت الفكرة».
الغزيّون نجحوا في التغلب على كثير من أشكال الحصار، لكنهم وقفوا عاجزين أمام أزمات كثيرة نجمت عنه، من أزمة السيولة في عملتَي الدولار الأميركي والدينار الأردني المتداولتين في الحياة اليومية، مروراً بالشيكل الإسرائيلي، وصولاً إلى أزمة مواد البناء اللازمة لإيواء آلاف الأسر الفلسطينية المشرّدة، بعدما فقدت منازلها في الحرب الأخيرة على غزة.


مخاوف من المصادر المجهولة(الأخبار)