محمد زبيبشربل نحّاس وزيراً! الأمر ليس عابراً أو عادّياً، بل يمكن عدّه الحدث الذي يسمح برفع سقف التوقّعات قليلاً... حدث لم يتكرر في تاريخ تأليف الحكومات اللبنانية إلا نادراً، ونادراً جدّاً، مع وزراء مرّوا سهواً في مراحل معيّنة، وجرّبوا أن يُحدثوا ثقباً، ولو بسيطاً، في جدار النظام المتماسك، فوجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهات طاحنة وغير متكافئة، بلا سند أو حماية.
ليس الأمر عابراً أو عادياً، لأن شربل نحّاس نفسه ليس شخصاً عابراً أو عادياً، فمن يعرفه جيّداً يعرف أن الأفكار التي يحملها وينادي بها تمثّل الآن ذروة الطموح إلى التغيير، ولا مبالغة في القول، إن إسهاماته الكثيرة، على مدى عقدين من الزمن، كان لها الأثر البالغ في بناء الأسس التي يقوم عليها «الاعتراض» اليوم.
هذه الإسهامات لا تنحصر بما هو معروف أو معلن، كبرنامج التصحيح المالي في عام 1998، والمخطط الشامل لترتيب الأراضي في لبنان، واقتراح قانون نظام التقاعد والحماية الاجتماعية (ضمان الشيخوخة)، وبرنامج الاستثمارات العامّة في مجلس الإنماء والإعمار، وتوحيد حسابات القطاع العام في وزراة المال... وهي كلّها دراسات ومشاريع «بديلة» لم تُقَرّ لشدّة تعارضها مع منظومة المصالح القائمة، أو أُقرّت بصورة مشوّهة أو غير ملزمة لتجاوز محتواها التغييري المهم. فإسهامات شربل نحاس غير المعروفة أو غير المعلنة ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، من خلال تجسيده دور «المثقف» الرافض أن يقيم في إحباطاته الكثيرة، فبقي، مع قلّة قليلة، يقاوم الإغراءات التي جرّت شريحة واسعة من المثقفين إلى بيت طاعة المال أو النفوذ أو الطوائف.
الأفكار التي يحملها وينادي بها تمثّل الآن ذروة الطموح إلى التغيير
لقد ساعد شربل نحّاس العديد من الناس والأحزاب والتيارات والهيئات والنقابات لكي يتمسّكوا بمفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن السائد. مفاهيم كثيرة بدت لوهلة كأنها بالية وغير قابلة للحياة في ظل رواج الثقافة الريعية أو بالأحرى في ظل سيادة الجهل... فهو من الذين جهدوا لمدّ «المعترضين» دائماً بحجج راسخة للاستمرار في مواجهة النظام الطائفي وطبقته السياسية من خلال تركيزه على كشف الترابط بين هذا النظام وهذه الطبقة وبين النموذج الاجتماعي ـــــ الاقتصادي الاستبعادي وأدواته الكامنة في الفساد وتركيز الثروة وتشجيع الهجرة... فأوضح في كل دراساته ومقالاته ومناقشاته كيف تعمل هذه المنظومة على نحو منسّق ومرتّب جدّاً، لتبدو كأنها التعبير عن مسار طبيعي لا مفرّ منه أو لا بديل منه، في حين أنها نابعة من إرادة مسبقة لدى الطبقة السياسية بهدف ضمان ديمومة النظام والنموذج معاً. وهكذا أصبح الدين العام هو البديل من الثروة وهو مصدر الثروة في آن واحد، أو كما يشرح نحّاس نفسه: «هو بديل من الثروة والإنتاج لأنه يموّل الاستهلاك والعجز الخارجي، وهو في الوقت نفسه المادة الأساسية للثروة المحلية، لأن تزايده المطّرد يستولد في المقابل تراكم الودائع المصرفية من دون سقف، والودائع لا تعدو كونها صورة موازية للدين... لذلك، فإن الدين العام ليس في الحقيقة سوى الوجه الأكثر بروزاً لنموذج اجتماعي ـــــ اقتصادي نشط ومنتظم يسمح بالتعرّف إلى معالمه بفهم التاريخ الحديث للبنان... نموذج أدّى استفحاله إلى تعطيل الآليات المجتمعية وإلى تهديد كيان الدولة».
بقي شربل نحّاس «معارضاً» عنيداً للسياسات المتبعة، ومارس نشاطاً سياسياً بامتياز، عبر حضّه على التغيير، أو على الأقل عبر الحضّ على توفير الحدّ الأدنى من الحماية للفئات الاجتماعية الضعيفة التي تحتاج إليها. فهو لم يخف اقتناعه بأن هذا النموذج لا يمتلك القدرة على الإقلاع إلى ما لا نهاية، وبالتالي عندما يتعطّل في محطة ما مقبلة، سيرتّب أكلافاً باهظة على الفقراء والمهمّشين وما بقي ممّا يُسمّى الطبقة الوسطى... هذا الموقع غير الملتبس جعله حاضراً بقوّة لدى كل مَن يدّعي الدفاع عن المتضررين، وربما هذا ما جعله خياراً موفّقاً جداً لدى رئيس تكتّل التغيير والإصلاح ميشال عون، الذي يسعى إلى أداء هذا الدور في مواجهة ما يسميه «الحريرية».
تعيين شربل نحاس وزيراً في هذه الحكومة هو حدث حقيقي، وقد لا يختلف مع هذا التوصيف حتى الذين يخالفونه الرأي، أو لا يرون ما يراه، إلا أن هذا الحدث لا يكفي وحده لإحداث الفرق الجوهري، فما الذي يمكن أن يفعله وزير واحد في حكومة الثلاثين؟ الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بتوفير قاعدة دعم جديّة وتحرّك متواصل من كل القوى والهيئات والنقابات والشخصيات التي مثّل شربل نحاس بارقة أمل لها.
عندما خرج جورج قرم من الحكومة بعد انتخابات عام 2000، سُئل عن سبب إخفاقه في إحداث تغييرات جديّة في السياسات القائمة، وهو كان وزيراً للمال، فأجاب: «الأمر بسيط، لقد هلّل الإصلاحيون لتسلمي هذه الوزارة، لكنهم وقفوا يتفرجون وينتظرون الإنجازات من دون أن يمارسوا أي ضغط من أجل ذلك... وعندما عجزت عن المواجهة وحدي، بدأوا يوجّهون إليّ الانتقادات».