صار من الواضح أن إسرائيل تتجه إلى التهدئة الميدانية في الضفة والقدس المحتلتين، بعدما اتضح لها أن «عرض العضلات» وجملة الإجراءات العقابية بحق الفلسطينيين لا يجديان نفعاً، بل من شأنهما التسبب في مزيد من التصعيد. والتوجه الإسرائيلي الحالي، إلى التهدئة، يتلاقى حتماً مع توجه مقابل من السلطة الفلسطينية، عبّر عنه رئيسها محمود عباس الذي طلب من الأجهزة الأمنية الفلسطينية «تفويت» الفرصة على تل أبيب ومنع «التصعيد» لأنه يخدم المخططات الإسرائيلية.
طوال أمس، صدرت مؤشرات على التوجه الإسرائيلي إلى التهدئة من تسريبات في الإعلام العبري عن «تغيير» في تعاطي رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو مع الاحتجاجات في الضفة والقدس، وتعاطيه مع عدد من وزارء اليمين المتطرف في حكومته. مثلاً، شهد المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية مشادة بين نتنياهو ووزراء اليمين، بعدما لمّح (نتنياهو) إلى أنه لن يسمح بتكرار الانتقادات التي أطلقت من داخل الحكومة، كما حدث في عملية «الجرف الصامد» مع قطاع غزة، في إشارة منه إلى أنه لن يتردد في عزل الوزراء «المشاكسين» من الحكومة.
مراسل القناة الثانية العبرية أشار إلى أن نتنياهو يستمع إلى تقديرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي ترغب في التهدئة ووقف تصعيد الإجراءات بحق الفلسطينيين جيداً، كما بات يميل إلى العمل بتوصياتها ودعوتها إلى رفض تشديد القبضة الأمنية على المدنيين في القدس والضفة، خوفاً من دفع الفلسطينيين إلى مزيد من التصعيد، خصوصاً بعد وصول التوترات إلى ما وراء الخط الأخضر، مع احتجاجات سجلها فلسطينيو الأرض المحتلة عام 1948. ووفق القناة، فإن نتنياهو الآن مع التهدئة في الميدان، وأيضاً على الحلبة السياسية.

ثمة ما يفسّر إجراءات العدو الأخيرة بخلاف ما طالب به اليمين

في موازاة ذلك، أشارت صحيفة «هآرتس»، أمس، إلى أن ضباطاً رفيعي المستوى في الجيش الإسرائيلي، ونظراء لهم في أجهزة الأمن الفلسطينية، ينوون البحث في التهدئة في الضفة والقدس والإجراءات الكفيلة بإنهاء التوتر. ووفق الصحيفة، فإن ضباطاً من قيادة المنطقة الوسطى في الجيش يؤكدون أن السلطة تحاول بالفعل «كبح جماح الفلسطينيين وكبح العنف الصادر عنهم»، لكنهم في المقابل يأملون من إسرائيل أن تهدئ المستوطنين وتلجم أفعالهم.
ومؤشرات أمس كانت واضحة بأن الجانبين، إسرائيل والسلطة، سيبادران إلى خطوات من شأنها تهدئة التوتر وقمع الاحتجاجات في الأيام المقبلة، لكن هذا المسعى يتعارض مع إرادة الطرفين، وتحديداً إسرائيل، في الخروج من حالة التصعيد الحالية ويدها العليا، أو الظهور بمظهر الاقتدار ضد الفلسطينيين، مع تحسين مستوى الردع لمنع عودة التوتر لاحقاً. كذلك فإن رام الله نفسها، التي كانت معنية إلى حد ما بمظاهر الاحتجاجات في الضفة والقدس، تعويضاً وتماشياً مع «قنبلة» عباس التي لم تنفجر في الأمم المتحدة، تدرك جيداً أن استمرار الوضع على حاله قد يفضي إلى خروج الميدان عن سيطرتها، وهذا التوجه موجود في حركة «فتح»، هي الأخرى، بعدما ظهرت مؤشرات لدى جمهورها لمجاراة الهبة الشعبية في مدن الضفة.
أما إرادة التهدئة الإسرائيلية مع الظهور بصورة المنتصر، فهي تفسر الإجراءات الصادرة عن العدو في اليومين الماضيين، التي لم ترقَ إلى الحد الذي طالب به وزراء اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، بل جاءت على شاكلة المزيد من الشيء نفسه، وإعطاء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هامشاً أكبر من المناورة، لكن مع هدم منازل مقاومين نفذوا عمليات في العام الماضي. وحتى الآن، امتنع نتنياهو ووزير أمنه، موشيه يعلون، عن الاستجابة لمطلب إغلاق الضفة واجتياح مدنها بما سمّي «سور واقي ــ 2»، كذلك امتنع عن توسيع الاستيطان وغيره من الأفعال التي كانت ستنهي أي أمل بالتهدئة، وقد تدفع إلى انتفاضة ثالثة، لا يُعرف كيف تنتهي.
هل تكون للميدان الكلمة الفصل؟ وهل ستستمر الاحتجاجات وصولاً إلى انتفاضة جديدة، أم تنتصر إرادة ومصلحة السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو بلجم الانتفاضة في مهدها والتوجه إلى التهدئة؟ يبدو أن إرادة الطرفين أكثر من جدية، لكن حادثاً كبيراً، لكلا الجانبين، من شأنه تقليص تفاؤلهما بالنجاح.
مع ذلك كله، حرص نتنياهو على الظهور بصورة الاقتدار، وجال برفقة يعلون، ورئيس أركان الجيش غابي ايزنكوت، على موقع العملية التي أدت إلى مقتل المستوطنين الإسرائيليين في الأسبوع الماضي. وأكد ثلاثتهم في تصريحات منفصلة أن لا قيود على الجيش في أنشطته الهادفة إلى «دحر الإرهاب». وقال نتنياهو إنه سيتعامل مع التحريض بمنتهى الجدية، لكنه امتنع عن إطلاق تصريحات حادة، مثل التصريح الناري لدى وصوله من الولايات المتحدة، الأحد الماضي، وتهديده بـ«حرب لا هوادة فيها ضد الفلسطينيين».
ووفقاً للإذاعة العبرية، اقتصرت القرارات الإسرائيلية العقابية على جملة من المسائل دون ما كان يطالب به المستوطنون وعدد من الوزراء الإسرائيليين من اليمين المتطرف. وأشارت الإذاعة إلى أنه تقرر نشر كاميرات مراقبة توثق الحركة في طرقات الضفة، وإغلاق «حوانيت» التجار الفلسطينيين في البلدة القديمة، الذين أبدوا «لا مبالاة» لحظة تنفيذ العملية في البلدة وقتل مستوطنين اثنين فيها، على أن يدرس المجلس الوزاري المصغر في جلسته المقررة في الأسبوع المقبل اعتبار «الحركة الإسلامية ــ الجناح الشمالي»، منظمة خارجة عن القانون.