على قلق دائم عاشت "سودة" حياتها داخل المخيم. لم تحبه يوماً، لكنها لم تفصح عن مشاعرها هذه لأحد، لا لجدي و لا لأبنائها أو حتى أحفادها. لم تكن ذات شخصية هشة أبداً، بل كانت روحها قوية، "جبارة" كما اعتدنا نحن الأحفاد وصفها بعد أن رأيناها تحمل "الشاكوش"/المطرقة وتهدم حافة صغيرة بالقرب من باب الدار الخارجي.
كان أولاد الحارة يلعبون أمام بيت سودة ويتسلقون الحافة ثم يقفزون عنها، ويعيدون الكرة بالتناوب، لكل منهم دور يتكرر بعد انتهاء أدوار الجميع. الى اليوم الذي تشاجرت ابنة الجيران مع فتاة من الحارة وأوقعتها عن الحافة. ركض الجيران على صوتهما، وخرجت سودة مسرعة لترى ماذا حدث. سمعت الجيران –أمهات الأطفال- يتشاجرن، فدخلت الى غرفة "العدة" وأمسكت المطرقة باتجاه الحافة وهي تصيح بالجيران: "والله لأهدها إسا وأشوف كيف بدكو تتخانقوا عليها بعد، روحوا ضبوا اولادكو بالأول.. وها".
صحيح أنها كانت تكره ضجيج أولاد المخيم، كما كنا نضج نحن في الطابق العلوي، فتسمعنا وتنهال علينا بالشتائم وتتوعدنا بشكايتنا لأبي، لكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد. فـ"سودة" لطالما انزعجت من البيوت المتلاصقة ولم تتقبل أبداً حقيقة أنه لا خصوصية في المخيم، حيث أن ما تفعله أو تقوله في بيتها، تعلم به جارتها في اللحظة عينها بحكم تلاصق الجدران الى حد انعدام المسافة فيما بينها!
كرهت سودة "زواريب" المخيم الخانقة الضيقة وعدم دخول الشمس الى معظمها. وأشد ما كان يغضبها هو الوحل الذي لا مفر من الخوض فيه لاجتياز الطريق. أذكر في إحدى المرات حينما أخذتني معها لزيارة صديقتها "بكيزة" في الحارة المجاورة. كان بيت بكيزة وراء دكان فادي، في زاروب معتم وموحل، فاضطرت أن تحملني كيلا أوسخ ثيابي، لكن قدميها غاصتا بالوحل. هكذا أمضت الزيارة كلها غاضبة ومستاءة ومعكرة المزاج مما حصل. حتى أنها في اليوم التالي اشترت حذاء غير مفتوح فقط من أجل طرقات المخيم.
كانت سودة صاحبة شخصية قوية، ذات قراراتٍ خاصة، تفرضها علينا جميعاً شئنا أم أبينا. لم تكن تخبرنا بكل شيء تفعله أو حتى بكل زياراتها للأقارب أو المعارف. لكن هذا الحال لا يتماشى مع الحياة في المخيم. ففي المخيم الجميع يعرف الجميع وما إن يتصادف اثنان في الطريق، بعد السلام والدردشة، يسأل كل منهما الآخر: "وين رايح/ شو رايح تجيب؟/ شو رايح تعمل؟"، وهذا بالذات كان يفقدها صوابها، فترد بحدة: "وانت شو دخلك بالله؟". لكن مع الوقت ومع زعل الجيران منها بسبب مواقف كهذه، طورت أداءها وأصبحت تجيب مع ابتسامة استهزاء: "ع السينما"، أو مرة أخرى "ع البحر"/ "ع المريخ"/ ع آخر الدنيا/ ع جهنم!! منيح هيك؟" للأشخاص الذين كان بالهم أطول من بالها ويعيدون السؤال.
لم يقتصر تأثير الماء المالحة وغير النظيفة على اهتراء الحنفيات والأواني في البيوت، بل سببت أمراضاً جلدية للكثيرين، ما دفع سودة الى وضع جرة عريضة القعر في الحمام تملؤها بمياه الشرب الحلوة حتى تغسل جسدها وشعرها منها. وعممت هذه القاعدة علينا جميعاً.
لم ترَ سودة السكن في المخيم على أنه "حياة". كان المخيم بالنسبة لها كصحراء لا تمدك، بشيء سوى الصبر والجنون في آن واحد، حيث لا شيء متوفراً بشكله الطبيعي تحت عذر أنه يجب على الفلسطيني أن لا يرتاح في أكله/شربه/سكنه/عمله حتى يحافظ على رغبته بالعودة الى فلسطين.
لطالما ذكرتني جدتي "سودة" بحنظلة الذي قرر أن لا يكبر خارج فلسطين، فقط حين يرجع إليها. هكذا هي سودة، لن تعود الى طبيعتها ولن ترى في أي مكان بيتاً لها إلى أن تعود إلى كويكات.