أكثر من توقّعاتنا»، هذه كانت عبارة وزير الخارجية المصري، أحمد أبو الغيط، في تعليقه على المساعدات التي تعهّد بها المانحون في مؤتمر شرم الشيخ لإعادة إعمار قطاع غزّة. تعهدات لم تخرج عن حدود قاعات المؤتمر، فالقطاع المدمّر لا يزال مدمّراً
حسن شقراني
بعد العدوان على قطاع غزة، تداعى المانحون الدوليون، في الثاني من آذار 2009، إلى شرم الشيخ لبحث الإعمار. تظاهرة دولية حاشدة، خرج بعدها أحمد أبو الغيط ليعلن وعوداً بتقديم 4.81 مليارات دولار لإعادة إعمار غزّة. أموال كان من المفترض أنّها ستَنهض بالقطاع المدمّر اقتصادياً وإنسانياً بعد العدوان الأخير الذي خلّف، إضافة إلى الخسائر البشريّة التي لا تقدر بثمن، خسائر اقتصادية ناهزت الأربعة مليارات دولار، باعتراف المنظمات الدوليّة، التي أحصت أيضاً تدمير أكثر من 14 ألف منزل و68 مبنى حكومياً و31 مكتباً لمنظّمات غير حكوميّة.
وبحسب تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، نشر في أيلول الماضي، فإن العدوان الإسرائيلي «سبّب خسائر اقتصادية للفلسطينيين بقيمة أربعة مليارات دولار، لا تشمل هذه المعطيات الخسائر المباشرة وغير المباشرة الناتجة من الحصار».
وكشف منسّق برنامج مساعدة الشعب الفلسطيني في المنظمة، محمود الخفيف، لدى تقديم التقرير السنوي أن قيمة الخسائر المباشرة وغير المباشرة تمثل «ثلاثة أضعاف حجم اقتصاد غزة». وأوضح التقرير أنه بين المليارات الأربعة «خصص نحو مليار واحد كلفة الإجراءات الخاصة بتخفيف الوطأة الإنسانية للحملة العسكرية». وأشار إلى أن الوقف التام للأنشطة الاقتصادية في أثناء العدوان الإسرائيلي أدّى إلى خسارة في الناتج الإجمالي المحلّي قدرت بـ 88 مليون دولار.
ورغم أن أرقام المانحين وازت، إلى حدّ ما، حجم الخسائر المادية الناتجة من العدوان، إلا أن أياً منها لم يصل إلى القطاع المحاصر إسرائيلياً ودولياً، وربط دفعها عمليّاً بشروط سياسية فرضت على حركة «حماس» الحاكمة في غزة. شروط لا تخرج عن إطار ما وضعته اللجنة الرباعية الدولية (نبذ العنف، الاعتراف بإسرائيل، والإقرار بالاتفاقات الموقّعة معها)، إضافة إلى ضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزّة ومشاركتها في إعادة الإعمار.
شروط لم تتحقق بعد لتبقى المنح مجرّد وعود، فيما آلاف الفلسطينيين قابعون في خيام إيواء مؤقتة، نتيجة عدم تمكّنهم من إعادة بناء بيوتهم التي هدمها العدوان.
ومع ذلك، لم تخرج السلطة من «عرس» المنح خالية الوفاض. فالأموال التي كان من المفترض أنها مخصّصة لقطاع غزّة، حصلت سلطة محمود عبّاس على جزء غير قليل منها، رغم أن الضفة الغربية لم تكن مشمولة بالعدوان، وبالتالي لا تدخل أراضيها في نطاق «إعادة الإعمار»، التي كانت عنوان المؤتمر.
فعلى سبيل المثال، تعهّدت الولايات المتّحدة في المؤتمر بـ 900 مليون دولار، كان مخصّصاً منها لغزّة 300 مليون دولار فقط، فيما الباقي للسلطة الفلسطينية: 200 مليون دولار لدعم الموازنة (معالجة حسابات الحكومة وعجزها)، و400 مليون دولار لـ«الإصلاح الاقتصادي والقطاع الخاص والمشاريع الأخرى في الضفّة الغربيّة».
وإلى جانب التعهّد الأميركي المنقوص، قدّمت بلدان مجلس التعاون الخليجي 1.65 مليار دولار إلى «الإخوان» الفلسطينيّين، عبر آليّة حدّدت بطريقة دقيقة وفعّالة: عبر قناة السلطة الفلسطينيّة، كي لا تصل النقود إلى أيدي سلطة «حماس» الأحاديّة في القطاع.
هذه التدابير انطلقت من النظرة الضيّقة والمحدودة للأراضي الفلسطينيّة وتحديداً قطاع غزّة. فمنذ أن فرضت تل أبيب وواشنطن، ومعظم عواصم العالم، عقاباً على القطاع المنكوب بسبب مبايعته «حماس»، بدأت المصائب الاقتصاديّة تنهال: ففي كانون الثاني 2007 كان عدد الشاحنات المحمّلة سلعاً التي دخلت القطاع 14 ألف شاحنة، وبعد انتخابات حزيران من العام نفسه وصل العدد إلى 5 آلاف شاحنة، ليتراجع العدد إلى أكثر من ألفي شاحنة شهرياً، وهو ربع العدد الذي تحتاج إليه تلك المنطقة لتغطية حاجاتها الطبيعيّة.
وبحسب بعض التقارير، وصلت الامور إلى مرحلة من السوء إلى درجة أنّه حتّى قبل عدوان «الرصاص المصهور» كان 90 في المئة من السلع التي تدخل إلى القطاع تمرّ عبر شبكة الأنفاق المعقّدة المنتشرة في باطن الأرض تحت مدينة رفح. أنفاق تحوّلت إلى آلية اقتصادية بحد ذاتها، إذ إن أعمال الحفر تتراوح كلفتها بين 25 ألف دولار و100 ألف دولار (بحسب طول النفق وحجمه) ومن يملك المال يسيطر عليه، فيما يحصل صاحب الأرض المحفورة على 2500 دولار مقابل السماح بالحفر.
مأساة غزة الاقتصادية ليست وليدة العدوان، هي قائمة منذ الحصار قبل أكثر من ثلاثة أعوام. إذ إن 80 في المئة من سكّان القطاع يعيشون على مساعدات المنظّمات الدوليّة. وتفترض الأمم المتّحدة أنّ الموضوع سيبقى على هذا النحو لسنوات مقبلة. ولا يزال المجتمع الدولي ضائعاً في شأن الحلول التي يجب اعتمادها لتنميته ومعالجة مشاكله.
مأساة يمكن اختصارها بمجموعة من الأرقام التي تتحدث عن واقع الحال: 1.5 مليون نسمة يعيشون في القطاع (أكبر اكتظاظ سكّاني في أي رقعة جغرافيّة في العالم)، 57 في المئة منهم يعيشون تحتّ خطّ الفقر المحدّد بدولارين يومياً. أمّا عن معدّل البطالة فهنا المشكلة الكبرى، بعدما بلغ معدل العاطلين من العمل، بحسب أحدث التقارير، 80 في المئة، مقارنة مع 23 في المئة في الضفة الغربية.