رسالة نصيّة قصيرة
إلى آثار فلسطين، إلى آثار القدس، إلى آثار زغل
جاءت سارة تشكو لي أستاذها المصري في جامعة بيروت العربية، الذي كان يحذرها من خطر دخول مخيم شاتيلا، متذرّعاً بأن المخيم ليس آمناً لها كفتاة فرنسية شابة، تزوره كل يوم، كانت سارة تدافع دائماً عن المخيم، فهي تعرفه جيداً، وتعرف أهله الذين هم بمثابة أهلها. وبما أنها عاشت فترة من الزمن في مصر، كانت تجيد التكلم باللهجة المصرية، قالت لي مرة: «ده أستازي غبي، هوا ما دخلش المخيم ولا مرة، فإزاي بيصدر حكم مسبق على ناس ما يعرفهومش».
كنت أعمل في المجال الاجتماعي، فتقررت لي زيارة إلى جمهورية مصر العربية، لتبادل الخبرات مع مؤسسات أهلية تعمل في المجال نفسه، كنا ننتظر بفارغ الصبر، وأخيراً سنزور أهل مصر الطيبين، وأخيراً سنزور أم الدنيا، إلا أن الفراعنة رفضوا زيارتنا، متذرعين بأننا ما زلنا شباباً، وأنه غير مسموح للذكور الفلسطينيين بدخول مصر إلّا إذا كان عمرهم يتجاوز الخمسين عاماً! وضع اسمي على لائحة الانتظار في السفارة المصرية؟! وبعد توسط الاتحاد الأوروبي المموّل للمشروع، جاء الرفض قبل ساعات من موعد السفر! لم أكن أعلم أنه ليس للاتحاد الأوروبي كلمة على الجمهورية المصرية، وخصوصاً بعد اتفاقية برشلونة!
كانت سارة تعيش في الأشرفية، وأنا أعيش في «مخيم شاتيلا»، وكنا نلتقي على خط التماس، تقاطع بشارة الخوري، معرفة كلٍّ منّا بالآخر كانت معرفة تستحق المجازفة، أنا أعلّمها اللغة العربية وأُطلعها على الحضارة الكنعانية في مقاطعة فينيقيا، وهي تشاركني الصراع مع الفراعنة بروح إغريقية.
في ذلك الوقت، كانت الحرب الأهلية ذكرى من الماضي، إلا أنني كفلسطيني كنت أتعرض لكثير من المواقف الصعبة في تنقلاتي، وما زالت هناك عبارة عالقة في ذهني لا تفارقني وهي: «أنت فلسطيني؟ نريد منك أن تختفي الآن فوراً عن وجه الأرض وإلّا...»، صدقيني يا آثار لقد قيلت لي هذه العبارة، وكيف أختفي عن الوجود؟! إسماعيل ياسين قد مات، وقبعة الإخفاء ليست معي، عدت في تلك الليلة إلى مخيم شاتيلا، وما إن وصلت إلى مدخل المخيم، حتّى أرسلت رسالة نصيّة قصيرة من هاتفي المحمول إلى سارة، كتبت لها فيها: «مخيم شاتيلا الذي يخشاه أستاذك في الجامعة ويخافه، ويحذّرك من دخوله... عندما أعود إليه أشعر
بالأمان».
هشام غزلان ـــــ شاتيلا

■ ■ ■

«وعد»

عزيزي هشام
أتذكر عندما رأيتك لأول مرة في بيروت. أتذكر تلك النظرة التي رأيتها في عينيك عندما كنت تتحدث عن فلسطين، يومئذ اجتاحني خليط من مشاعر الغضب والحزن العميق، وشعرت باختناق سرق مني الكلمات. ماذا أقول؟ لم أعرف ماذا أقول، أحسست بشيء من الذنب لم أدرِ لماذا. ربما لأن الاحتلال استطاع أن يقسو عليك أكثر مني وحرمك حتى أن تلامس تراب الوطن. وفي الوقت نفسه في لحظتها شعرت بالسعادة كأنّني رأيت جزءاً آخر من وطني وهويتي المبعثرة، جزءاً لم يكن يسمح لي برؤيته. رؤيتك أرجعتني بالذاكرة إلى زيارة قمنا بها أنا ومجموعة من الأصدقاء إلى مخيم في الضفة الغربية منذ فترة. يومها رحنا نمشي في تلك الشوارع الخانقة، نشعر بقهر من قسوة الحياة على الناس في هذه المساحة الضيّقة، نمشي بين أشباه البيوت الصغيرة المهمّشة، كنا نسأل المارة عن أحوالهم ومن أين هم، فكانوا يجيبون: أنا من اللد، وآخر يقول أنا من حيفا وآخرون من الرملة أو يافا. كنت أبتسم وأحاول جاهدة أن أمنع دموعي من أن تنهمر أمامهم، تخيّل! هم يعيشون على بعد كيلومترات قليلة من مدنهم لكنهم يعيشون في حالة من الأسر داخل وطنهم. غالباً ما تكون الحياة هنا ظالمة، والأسوأ هو ذلك الشعور بالضعف والعجز تجاه هذا الظلم. كلما نظرت في عيونهم ورأيت حنينهم إلى أرض لم يروها يوماً، كنت أشعر بألم يعتصر قلبي، ولكن تعزّز شعوري بالأمل، نعم هم أناس نُزعوا من أرضهم، وفقدوا كل شعور بالأمان، ولكن لم ينجح أحد بنزع هويتهم عنهم وعن انتمائهم. فتراهم يتحدثون بشوق وعيونهم تلمع حنيناً كأنهم موعودون بالرجوع قريباً، إلى
أرضهم.
عزيزي هشام: ماذا أقول لك؟ لن يستطيع أحد أن يفهم شعورك، أعلم ذلك. لكنك وعدتني. هل تذكر؟ قلت إنك ستأتي لزيارتي في القدس يوماً ما، أتذكر؟ عدني بأن تتمسك بهذا الوعد وبهذا الأمل لأنه كل ما بقي لنا. وأنا على يقين أننا سنلتقي يوما ماً. سنلتقي، أليس كذلك يا هشام؟
آثار زغل ـــــ القدس