أذكر يوم قابلتها جيداً، كان ذلك في أحد معارض الفن التشكيلي هنا في غزة. تصادفت دهشتنا عند اللوحة ذاتها
غزة ــ اسماء شاكر
هي، انشغلت بتدوين شيء ما، وأنا انهمكت في تدوين فوضى ملاحظاتي، لكن الفضول جعلني أحاول اختلاس النظر إلى دفترها الممتلئ لأقرأ ما الذي تدونه، وهو الفضول الذي جعلها تحدّق في خطي، لتكتشف كلتانا أننا من لغتين مختلفتين تماماً، ولوحة. لا أدري كيف تورطنا بالابتسامة والحديث والإشارات والدفاتر، هي الصحافية الفرنسية التي تتقن مجموعة من اللغات بالجملة، إضافة إلى بعض الشتائم باللهجة الغزاوية، كأحد دواعي التأقلم، وأنا زميلتها الفلسطينية المتأففة من ازدحام المعرض والأسئلة الساذجة عن اللوحات. كانت فلورا تمشي بنعل بلاستيكي رخيص بأريحية جميلة، ترتدي ملابس قديمة ملوّنة بإهمال شديد لأي تناسق، حاملة حقيبتها القماشية الكبيرة التي تتسع لمكتبة بحالها! لكن أكثر ما لفتني بالفرنسية العجوز، تلك السلسلة الذهبية التي تحمل خارطة فلسطين، ربما كانت أغلى ما تملكه فعلياً في تشردها على أرصفة الشوارع بحرية واعتياد على ما يبدو. رأيتُ فلورا بعدها في العديد من الأماكن، وغالباً ما تنسى اسمي ومن ثم تتذكر وجهي ويأخدنا الحديث المرتبك بين الإنكليزية والعربية، إلى أن تظاهرتُ ذات مرة بإعجابي بسلسلتها الذهبية قائلة: «ممم فلسطين!»، أجابتني بتحفز واستياء: «هاي بدل فلسطين الكبيرة». تسمرتُ يومها في مكاني، كانت إجابتها صادمة وواثقة إلى ذلك الحد الجارح.
لا أحد يريد أن يعيش لفلسطين، فالموت السريع لأجلها أسهل بكثير
لا أنسى ملامحها وهي تغطي الخريطة بكفة يدها، كأنها ستهرب هي أيضاً، ظلت كلماتها تدور في رأسي في كل مرة أراها فيها، هل كانت الهوية محض خرائط صغيرة معدنية، يصنعها الصائغ تكريماً لذكرى قطعة أرض تشبهنا؟ نعلقها فيصير الوطن سلاسل وميداليات تذكارية للسائحين والثوريين الصغار، بعدما أمسينا نصباً تذكارية لبطولاتٍ شهيدة، فنحن لا نصبح أبطالاً إلا عندما نموت، ليحيا الوطن وحيداً ومحتلاً من كل الجهات، نساومه بالعمر وننفضه بعيداً عنا إلى الجنة التي ستأخذنا للسماء، وهو ذاته الشعار الذي كنا نردده في كل جنازة ومسيرة: «نموت نموت وتحيا فلسطين»، هكذا نكون في منتهى الثورة والوطنية، أو هكذا نظن، لا أحد منا يريد أن يعيش لفلسطين، فالموت السريع لأجلها أسهل بكثير بكثير!
فلورا نيكوليتا لن تعرف ماذا يعني ذلك الوطن، فلسطين بالنسبة إليها خرائط وشعارات وكوفية، كما غيرها من زائري فلسطين، ستأخذها كذكرى إلى وطنها عندما تعود، وتنهي بالقصص والحكايات كتابها الرابع وسنواتها الكثيرة التي قضتها في قطاع غزة.
لم يكن الوطن أرضاً فقط، فالأرض جزء من وطن مزمن، في اللهجة والاغتراب واللجوء والهوية والموت، وطن مذاب رغماً عنا في الدم العنيد الذي يكتشفه ضابط التفتيش على الحواجز والمطارات، في وجوهنا المدعوكة بالنكد وبالغبار، رغم هروبنا منه.
في أحد مساءاتي العائدة من المدينة إلى الجنوب، رأيتُ فلورا على رصيف الموقف، تشرب القهوة وتكتب في ضوء الشارع الخافت، تتأمل وجوه العابرين حيناً، وتعود لدفترها أحياناً أخرى.
شاركتها كوب قهوة على عجل، وبعض عربيتها المكسرة في حديث قصير عن العمل والتعب، لفتتها سلسلتي الفضية هذه المرة، كانت أيضاً لخارطة صغيرة، وخرزة زرقاء سألتني عنها، أجبتها بابتسامة ساخرة: «هاي فلسطين بس مش بدل الكبيرة اللي إنت بتقولي عنها، والخرزة الزرقا لعين الحسود»!