في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدمويّة...
محمود درويش
القدس المحتلة ــ فراس خطيب
يكفي أن تمرّ بين شوارع القدس وأزقّتها. أحياؤها التي تشبه الأحياء. أن تخالط أهلها المنسيّين على أطراف مدينتهم وتسألهم عن أحوالهم، لينتفضوا في إجاباتهم ضد كل شيء. كل شيء صار أشدّ فقراً، والملامح أشدّ غضباً. ومن يقصد القدس بحثاً عن ابتسامة سيجد أن الناس قليلاً ما يبتسمون. هذه ليست رومانسية كاتب، بل وصفٌ لحالها الواقع بين انفجارين. وفي ظل هذا الواقع الذي يراوح بين الأسود والحالك السواد، لا أحد يعرف ماذا توقّع الإسرائيليون وغيرهم من أناس يعيشون في خزّان...
أُعلِن أمس عن «يوم غضب» في القدس في أعقاب إقامة كنيس «الخربة» اليهودي على مقربة من المسجد الأقصى. الشرطة الإسرائيلية استعدّت. كان وجودها مكثفاً في أحياء المدينة المحتلة وبين أزقة البلدة القديمة وأسوارها. تصاعدت حدّة هذا الوجود فجر أمس. القوات الإسرائيلية انتشرت بين الأحياء، وتمترست في نقاط عديدة. كانت مجهّزة بكل ما أوتيت به من وسائل لتفريق المتظاهرين.
المواجهة الأولى اندلعت فجراً عند باب الأسباط (أحد أبواب المسجد الأقصى)، بعدما أدى الفلسطينيون صلاة الفجر. ومن هناك انطلقت الشرارة. وفي مقابل الحصار المفروض، نصبت الشرطة الإسرائيلية حواجز في الشمال لمنع عدد من فلسطينيي 48 من الوصول عبر الحافلات إلى القدس.
لم تتوقف المواجهات بين قوات «حرس الحدود» الإسرائيلي والفلسطينيين في النقطة التي بدأت منها، وانتشرت بطبيعة الحال إلى رأس العمود، وعند المدخل الشمالي لبلدة العيسوية، ومخيم اللاجئين شعفاط، وحيّ وادي الجوز القريب من أسوار البلدة القديمة، وفي أحياء الطور والصوانة وصور باهر. كان واضحاً أن المشهد قابل هذه المرة للاشتعال أكثر. كانت المواجهات عنيفة والمشاهد قاسية ومنتشرة، تذكّر بأيام الانتفاضتين الأولى والثانية، حين كانت القدس في صلب الانتفاضة: شبّان ملثمون يلقون الحجارة على قوات شرطة الاحتلال. إطارات محروقة وأعلام فلسطينية وهتافات عن نصرة الفلسطينيين والقدس والمقدسات. كانت الشرطة قاسية، وحاولت قمع المتظاهرين بالقوة: قنابل صوتية، غاز مسيّل للدموع، هراوات، علاوة على فرق الخيّالة التي طافت الشوارع المحتلة لقمع المتظاهرين.
شهود عيان قالوا لـ«الأخبار» إنّ الشرطة الإسرائيلية دفعت أحد الكلاب المتوحشة باتجاه ملقي الحجارة في العيسوية. كان الكلب يهجم على المتظاهرين بصورة وحشية، بينما يسعى عناصر شرطة الاحتلال إلى اللحاق به مطاردين الفلسطينيين. في إحدى المرات، استطاع الكلب أن يعضّ قدم أحد المتظاهرين، وظلّ ماسكاً بها وسط سيل من القنابل المسيّلة للدموع. عندها، تعرض الكلب لوابل من الحجارة من قبل الفلسطينيين حتى ترك قدم الفلسطيني.
ولفت شهود عيان آخرون إلى «مشاهد لم يروها منذ الانتفاضة الثانية، وخصوصاً الزجاجات الحارقة التي ألقيت على الشرطة». وقال أحدهم لـ«الأخبار» إن أعداداً من المقدسيّين «وجدوا سلاحاً جديداً ضد شرطة الاحتلال؛ وبدلاً من استعمال الألعاب النارية في مواسم الأعراس، وجّهوها نحو قوات الشرطة».
المواجهات امتدت إلى الضفة الغربية المحتلة. فعلى مقربة من حاجز قلنديا العسكري (الذي يفصل رام الله عن القدس)، دارت مواجهات بين المئات من طلاب المدارس وجنود الاحتلال، حيث استعمل الجيش الإسرائيلي القنابل المسيّلة للدموع والرصاص المطاطي. ولم يتوقف الغضب هناك. أصيب ثمانية فلسطينيين في مواجهات وقعت في قرية نلعين الفلسطينية، غرب رام الله، كما أصيب عدد من الفلسطينيين في الخليل.
وأدّت اشتباكات القدس إلى جرح أكثر من 91 فلسطينياً، منهم ما يقارب الـ40 شخصاً أصيبوا بالرصاص المطاطي، إضافة إلى اعتقال العشرات، وصفهم أحد قادة الشرطة بأنهم «من ذوي الجودة». في المقابل، أصيب 8 شرطيين إسرائيليين. وقال المفتش الأعلى للشرطة دودي كوهين «إننا نلاحظ علامات لخرق النظام، لكن هذا ليس انتفاضة ثالثة»، كما أشار قائد منطقة القدس في الشرطة أهارون فرانكو إلى أن «مسيرة اليمين في بلدة سلوان المقدسية ستتم، لكن بعد تقويم الوضع».
ما شهدته أزقّة البلدية القديمة ومناطق أخرى في القدس المحلة، يعني جيّداً أن الحياة لن تعود إلى ما كانت عليه. حالة الاحتقان والغليان المهيمنة على هواء المدينة الثقيل، كان لا بدّ لها من أن تنفجر. فحين تضيع الخيارات كلّها، لا يبقى لأهل هذه المدينة سوى الخروج إلى الشارع. بالنسبة إلى المقدسيّين، فإن البناء في القدس لا يعني أرقاماً لوحدات سكنية. الأميركيون يرون الاستيطان «عثرة سياسية»، فيما هم يرونها «حرباً على البيت»!
خيّم الليل على المدينة المقدّسة والأحداث لم تنته. أصوات سمعت هنا وهناك. هذه المرة، من الصعب القول إن الهدوء سيعود بسرعة، وحتى لو عاد، ففي ظل غياب أفق سياسي وحلول لأهلها العالقين بين التمييز والحصار، ستظل المدينة المقدسة ساحة أزلية للمواجهات.
ووسط قدس عالقة تنتظر المجهول، وإلى جانب غضب أهلها، كان لفلسطينيي الـ48 موقفهم. فنظّمت بعض الحركات السياسية في قرى الداخل الفلسطيني تظاهرات رفعت شعارات تندّد بالقرارات الإسرائيلية حيال القدس. وقال رئيس اللجنة محمد زيدان إنه «خلال سنوات المفاوضات، تم تهويد القدس بالكامل وبنيت مئات الوحدات الاستيطانية. وعلينا هنا عدم وضع المدينة كجزء مسلّم به للمفاوضات»، فيما أشار رئيس كتلة التجمع الوطني الديموقراطي النائب جمال زحالقة إلى أنه «يجب أن يكون هناك تجاوب عربي وإسلامي مع الهبّة الشعبية التي تشهدها القدس».
وإلى مواقف الضفة، قالت منظمة التحرير الفلسطينية، في بيان، إن القرار الإسرائيلي هو «ذروة الاستفزازات». وأعلن مسؤول ملف المفاوضات في المنظمة، صائب عريقات، أنه «سيتوجه إلى موسكو للقاء مسؤولين روس وأميركيين وأمميين وتسليمهم رسائل خطية ووثائق وخرائط، توضح حجم الهجمة الإسرائيلية التي تواجهها القدس، بناءً على طلب الرئيس محمود عباس». وأشار إلى أن السلطة «سلّمت نسخة من الرسالة إلى الأشقّاء العرب»، لافتاً إلى أن «هناك تنسيقاً عربياً غير مسبوق في هذا المجال».
وأضاف عريقات أن «المسائل على الأرض لم تعد تحتمل، والوضع أصبح متفجراً، و(رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو يعرقل فرص السلام ويفرض الحقائق على الأرض، وسياساته بمثابة صب البنزين على النار».
تحركٌ لم يُرضِ مسؤول ملف القدس في حركة «فتح» حاتم عبد القادر، الذي اتهم الحكومة الفلسطينية برئاسة سلام فياض، «بمنع أي انتفاضة شعبية ضد إسرائيل في الضفة الغربية لنصرة القدس في وجه التصعيد الإسرائيلي». وقال إن «المقدسيين يستصرخون العرب من أجل دعمهم ومساندتهم، فيما يتخلى عنهم الشارع في الضفة الغربية بسبب حالة الكبت التي يتعرض لها».
وإن كانت المناصرة العربية باهتة، إلا أنها لم تكن معدومة. في لبنان، خرج أبناء مخيم البداوي مستنكرين بناء كنيس «الخربة»، وهم يردّدون: «يا أقصانا يا حزين، راجعلك صلاح الدين». وفي عمان، نظّم طلبة الاتجاه الإسلامي في الجامعة الأردنية مسيرة حاشدة في الجامعة للتنديد بالإجراءات الإسرائيلية في القدس، تزامناً مع اعتصام نظمته أحزاب المعارضة والنقابات أمام مقر مجمع النقابات المهنية.
كذلك طالب وزير الخارجية الأردني ناصر جودة المجتمع الدولي «بتحرك فوري لوقف الاستفزازات الإسرائيلية في القدس، وضمان عدم تكرارها». أما سوريا، فقد دان مجلس وزرائها جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وما يتعرض له المسجد الأقصى من أعمال تهويد.
كذلك دان الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو بناء إسرائيل كنيس «الخربة» على «أرض أوقاف إسلامية»، محذّراً المجتمع الدولي من «حرب دينية».
دولياً، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية برنار فاليرو أن «فرنسا دعت كل الأطراف في القدس إلى تجنّب التصعيد»، قائلاً إن «الوضع مقلق». كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى «الهدوء وضبط النفس».


كنيس الخربة

يقع كنيس «هاحوربا»، أو الخربة، على بعد نحو 200 متر من حائط البراق، الذي يرى فيه اليهود «الحائط الغربي» الباقي من معبد سليمان المسمّى «الهيكل». ويتوسط الكنيس الحيَّ اليهودي داخل البلدة القديمة، وهو حيّ أقيم على أنقاض حارة الشرف في أعقاب احتلال القدس عام 1967.
وتعدّ جماعات يهودية الكنيس الموقع الديني الأكثر أهمية منذ خراب الهيكل الثاني مطلع القرن الميلادي الأول. ويعزو هؤلاء لإعادة بنائه أبعاداً غيبية تتصل بنبوءات عن إقامة الهيكل الثالث، وينقلون عن الحاخام «يهودا الصديق»، الذي عاش في القرن الثامن عشر، تنبؤه بأن يوم افتتاح الكنيس هو الموعد الذي ينطلق معه العد العكسي لبناء الهيكل الثالث. وتزعم الرواية اليهودية أن الكنيس بُني للمرة الأولى في القرن الثامن عشر فوق مكان كان يضم في الأصل معبداً يهودياً قديماً، لكنه تعرض للهدم على أيدي المسلمين مرتين: الأولى عام 1712، انتقاماً من أتباع الحاخام يهودا الذين تهربوا من سداد ديونهم والضرائب المفروضة عليهم، والثانية عام 1948 عندما تحصّنت فيه مجموعة من عصابات «الهاغاناه»، فحاصره قائد الفيلق الأردني، عبد الطل، وفجّره بعد إخلائهم منه.
وبعد احتلال القدس في 67 بدأت تظهر المطالبات بإعادة بناء الكنيس من جديد، إلا أن حاخامات الدولة اكتفوا ببناء قوس تذكاري لهذا الكنيس لأنه لا يمثّل معلماً هاماً؛ وظلت الحال على هذا حتى بدأت خطط التهويد للقدس تأخذ طابع الإسراع. وفي عام 2001 أقرت الحكومة الإسرائيلية بناء هذا الكنيس، وبدأ العمل الفعلي في المشروع عام 2006 بتكلفة بلغت عشرة ملايين دولار.
ويتكوّن الكنيس من أربع طبقات، تعلوها قبة بيضاء ضخمة. ويبلغ ارتفاعه 25 متراً، وهو بذلك المبنى الأكثر ارتفاعاً في البلدة القديمة بحيث يطل من علٍ على المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
يشار إلى أن الطبقة الأولى من الكنيس تضم عباءة تعود لنابليون بونابرت يقول اليهود إن الإمبراطور الفرنسي أهداها لهم بعد أن لجأ إليهم في أعقاب هزيمته أمام الروس عام 1812.
(الأخبار)