واصل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تحدّي الإدارة الأميركية، من خلال إعلانه التمسك باستمرار البناء في القدس الشرقية المحتلة، في وقت هبّ فيه اللوبي اليهودي الأميركي لتأييده في أزمته الاستيطانية الأخطر منذ 35 عاماً

نتنياهو: استيطان القدس سيتواصل



يحيى دبوق
ترجم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أمس، ما كان يقصد به عندما دعا الإسرائيليين أول من أمس إلى التحلّي بالهدوء وضبط النفس في مقاربة الأزمة الناشبة بين حكومته والإدارة الأميركية على خلفية قرار مواصلة بناء المستوطنات في القدس المحتلة. فبعد ساعات على وصف السفير الإسرائيلي في واشنطن، مايكل أورن، أزمة العلاقات بين حكومة نتنياهو وإدارة الرئيس باراك أوباما، بأنها الأخطر منذ 35 عاماً، عاد رئيس الوزراء إلى رفع سقف التحدي، معلناً أنّ البناء في القدس المحتلة سيستمر كما كان في السنوات الـ42 الماضية، ضارباً عرض الحائط بكل التحذيرات من خطورة تفاقم أزمة العلاقات بينهما.
في المقابل، تمسكت واشنطن، في سياق تصعيدها ضد حكومة نتنياهو، بتأكيد عمق العلاقات وأن إسرائيل «حليف استراتيجي للولايات المتحدة وستبقى كذلك». وفيما لم يعلّق المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيليب كراولي على إعلان «بيبي» مواصلة البناء في القدس، فإنه كشف عن أنّ واشنطن «تنتظر جواباً رسمياً من الحكومة الإسرائيلية يقدم أجوبة للقلق الأميركي». وقال: «عندما حدّدت الوزيرة كلينتون لرئيس الوزراء ما تعتقد أنها خطوات مناسبة يجب أن يأخذها، طلبت جواباً من الحكومة الإسرائيلية. ونحن ننتظر رداً».
ومع إقراراه بوجود «نقطة محددة تثير القلق»، جزم كراولي بأنّ «التزامنا بأمن إسرائيل يبقى قائماً، ولا يمكن أن يتزعزع».
في المقابل، رفض «بيبي» وضع أي قيود على مواصلة بناء الوحدات الاستيطانية في القدس الشرقية وفي الضفة الغربية المحتلتين. وقال، في كلمة أمام أعضاء كتلة حزبه «الليكود» في الكنيست، إنّ «البناء في القدس سيتواصل كما في السنوات الـ42 الأخيرة». ورداً على سؤال من أحد أعضاء كتلته، عن مصير قرار تجميد البناء في مستوطنات الضفة الغربية الذي سبق أن اتخذته الحكومة الإسرائيلية، والذي ينتهي مفعوله في شهر أيلول المقبل، أوضح أنّ «قرار المجلس الوزاري المصغر بوقف قرار التجميد مع انتهاء مهلة العشرة أشهر، ملزم».
وتابع نتنياهو أنه «على مدى الأعوام الأربعين الماضية، لم يحدث قط أن وضعت أي حكومة إسرائيلية قيوداً على البناء في أحياء القدس». ودعا الفلسطينيين، الذين جزموا أمس بأنهم لن يستأنفوا مفاوضات السلام ما لم يُلغَ مشروع بناء المنازل في القدس الشرقية، إلى «عدم وضع شروط مسبقة جديدة لاستئناف المحادثات» غير المباشرة.
وأشار رئيس الحكومة إلى وجود «إجماع شبه تام» بين الأحزاب السياسية الإسرائيلية، على أن تبقى «الأحياء اليهودية في القدس وحولها، جزءاً من دولة إسرائيل»، في أي اتفاق للسلام قد يجري التوصل إليه.
وتعكس خطوة نتنياهو، التي سبقها هجوم للوبي اليهودي ـــــ الأميركي في واشنطن على أوباما، أحد الأمرين: إما اطمئنان نتنياهو إلى محدودية السقف الزمني والعملي للأزمة مع الإدارة الأميركية، واستخفافه بالتهديدات الكلامية الصادرة عن واشنطن، وإما رغبته في دفع الأمور إلى حافة الانفجار، سعياً إلى الحفاظ على ائتلافه الحكومي بصيغته الحالية، في ضوء الأنباء عن قائمة مطالب أميركية طلبتها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون من نتنياهو خلال «مكالمة التوبيخ» الهاتفية التي دامت 45 دقيقة قبل يومين.
بدوره، تطرّق وزير الدفاع إيهود باراك إلى الأزمة السياسية مع واشنطن، وكشف، أمام كتلة حزبه «العمل» في الكنيست، أنه اجتمع مع فيرد هوف، مساعد المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل، ومع السفير الأميركي لدى إسرائيل جيمس كانينغهام، وبحث معهما «الخطوات المطلوبة والسبل التي يمكن العمل وفقها لإزالة التوتر الذي نشأ، ولاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين».
وكان سفير الدولة العبرية لدى الولايات المتحدة، مايكل أورن، قد حذّر من خطورة الأزمة في العلاقات الأميركية ـــــ الإسرائيلية التي تمر «بأزمة ذات أبعاد تاريخية»، لافتاً إلى أنها وصلت إلى أدنى مستوياتها خلال 35 عاماً. ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن أورن قوله، خلال حديث له مع دبلوماسيين إسرائيليين، إن «علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة تمر بأسوأ أزمة منذ عام 1975. إنها أزمة ذات أبعاد تاريخية»، في إشارة إلى الضغوط التي مارستها واشنطن عام 1975 على تل أبيب، لإعادة الانتشار في صحراء سيناء المصرية بعد حرب عام 1973.
في هذه الأثناء، دخل اللوبي اليهودي ـــــ الأميركي على خط الأزمة، داعماً لنتنياهو ومنتقداً أوباما، في موقف عدّه العديد من المعلقين «غير مألوف». وأعلنت لجنة الشؤون العامة الأميركية ـــــ الإسرائيلية، «إيباك»، المعروفة بتأييدها لإسرائيل، أن التصريحات الأخيرة للإدارة الأميركية بشأن علاقاتها مع إسرائيل «مثيرة للقلق». ودعت، في بيان، إدارة أوباما إلى «اتخاذ إجراءات فورية لتهدئة التوتر مع الدولة العبرية».
تجدر الإشارة إلى أنّ من المقرر أن يشارك نتنياهو، الأسبوع المقبل، في مؤتمر «إيباك» السنوي في واشنطن. وبحسب «يديعوت»، فقد جرى في مكتبه أول من أمس بحث مسألة ما إذا كان من الأفضل في هذه الظروف إلغاء الزيارة، لجملة أسباب بينها الخشية من رفض أوباما أو نائبه جوزف بايدن لقاءه.
غير أنّ مصادر مكتب نتنياهو شددت على أنّ رئيس الوزراء «لا يزال يخطط للسفر إلى واشنطن في زيارة تدوم 36 ساعة فقط»، مع تأكيدها أنه سيلتقي كلينتون أو بايدن، بما أنّ أوباما سيكون في إندونيسيا. ورغم التعليمات الصارمة التي أعطاها نتنياهو لوزرائه بتجنّب الإدلاء بأي تصريحات عن المسألة، فإنّّ أحد وزراء حزبه «الليكود»، رفض الكشف عن هويته، اتهم أوباما بـ«السعي إلى إسقاط حكومة نتنياهو»، وذلك في مقابلة أجرتها معه صحيفة «معاريف».
وكانت مواقف دولية وعربية عديدة قد دعمت واشنطن في أزمتها الاستيطانية مع تل أبيب، أبرزها صدرت عن الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون، في كلمة في جامعة الدول العربية في القاهرة، إضافة إلى مواقف أردنية وسعودية ومصرية.

واشنطن وتل أبيب و«الأيقونة الدبلوماسيّة»
حيفا ــ فراس خطيب
على مرّ التاريخ، شهدت العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة أحداثاً زعزعت الأوضاع لكنّها لم تنسفها. ففي عام 1967، قصف الإسرائيليون سفينة التجسس الأميركية «ليبرتي»، وقتلوا 34 أميركياً، قالوا «عبر الخطأ». ثم جنّدوا جاسوساً عمل لمصلحتهم في داخل سلاح البحرية الأميركية، ورفضوا مقترحات كثيرة تقدّمت بها واشنطن. مع ذلك، وصلت العلاقات بينهما إلى مستوى «التحالف الاستراتيجي».
ويبدو جليّاً، أنَّ أزمة الاستيطان (المسبوقة) لن تكون عقبة أمام العودة إلى «المسلك التقليدي»، إذ تشبه هذه العلاقات «الأيقونة الدبلوماسية»، وعنوانها التزاوج الذي لا تفصله الأزمات. فمنذ قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين عام 1948، كان الحضور الأميركي طاغياً على المشهد العبري. من هناك بدأ التحالف، ومن هناك رافقته خلافات في الرأي، كان أولها عام 1949، حين طالب الرئيس الأميركي المؤيد لإسرائيل هاري ترومان، بعد اعترافه بالدولة العبرية، رئيس الحكومة الإسرائيلية ديفيد بن غوريون «باستيعاب» مئة ألف لاجئ فلسطيني (كأنّهم مهاجرون)، إلى حدود الدولة العبرية الحديثة العهد. لكنّ الطلب لم يرتقِ أصلاً إلى أن يكون أزمة رغم تصميم الإسرائيليين على القول إنّ «خلافاً حاداً نشب بين الاثنين».
لكن في عام 1951 زار بن غوريون الولايات المتحدة لأول مرّة، واستُقبل بحفاوة بالغة، حين زيّن يهود أميركا شوارعهم بصوره، وزار البيت الأبيض وأهدى شمعدانًا لترومان تقديراً له على «خطوته» الاعتراف بإسرائيل. وعاد الأمر إلى سابق عهده. أميركا وإسرائيل، وتحالفهما الذي لا ينضب.
لعل أهم الأزمات التي نشبت بين الدولتين، كانت بين الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور وبن غوريون عام 1956، حين طالبت أميركا إسرائيل بالانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر. أزمة تبعها في تشرين الثاني من العام نفسه، تهديد الرئيس الأميركي جون كينيدي، رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول، بأن أميركا ستوقف المساعدات لإسرائيل إذا واصلت الأخيرة معارضة زيارة مراقبين أميركيين للمفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا.
وعندما يعود الإسرائيليون بذاكرتهم إلى الوراء، فإنَّهم لا يتوقّفون عند تلك الخلافات السابقة بين الرؤساء، ولا يشبّهون ما يجري اليوم بما حدث في الأمس، بل يعتقدون بأنَّ أزمة اليوم هي أعمّق مما كان في الماضي، وهي تشبه إلى حد كبير أزمة عام 1975، تلك التي نشبت بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين والإدارة الأميركية، برئاسة جيرالد فورد. ففي آذار من عام 1975، هدّد وزير الخارجية هنري كيسنجر بـ«إعادة النظر مجدداً» في «التحالف الاستراتيجي» في أعقاب رفض إسرائيل الانسحاب من ممرّي «مثلة» و«الجدي» في شبه جزيرة سيناء. وأُجبر رابين، بعد إعلان كيسنجر، على قبول الإملاءات الأميركية.
أزمة أخرى يمكن الإشارة إليها، حين أوقف الرئيس رونالد ريغان تزويد إسرائيل بطائرات حربية بعد قيام الأخيرة بضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، على الرغم من تأكيد مصادر عسكرية أن تل أبيب أبلغت واشنطن نيتها ضرب مفاعل تموز. بيد أن التعاون بين الدولتين استمر.
ولعل الأزمة التي نشبت بين الرئيس الأسبق جورج بوش الأب ورئيس الحكومة إسحاق شامير في أيلول عام 1991 هي الأقرب إلى ما يحدث اليوم لكونها قد اندلعت في أعقاب أحداث مشابهة. حينها أيضاً عارض بوش استمرار الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقال إن مواصلة الضمانات لإسرائيل تمر فقط عن طريق وقف الاستيطان. وتصاعدت حدّة الأزمة بين الجانبين، بسبب أن مؤتمر مدريد للسلام كان على الأبواب.
وهناك من يرى من المراقبين أن أحد أسباب خسارة إسحق شامير في الانتخابات عام 1992، كان توتر العلاقات في عهده مع الولايات المتحدة. لكنَّ العلاقات تغيّرت إلى الأفضل في عهدي إسحق رابين وبيل كلينتون.
الخبير في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، إيتان غلبواع، يرى أن الجانبين «يحتاجان بعضهما إلى بعض»، متوقعاً أن يكون هناك تصحيح و«وعي».
ما يجري اليوم، هو أنَّ إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تبحث عن إنجاز في الشرق الأوسط، في ظل استمرار العراق ساحة معارك، وفيما تزداد أفغانستان تعقيداً من يوم إلى آخر. لكن المفاوضات الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية متوقّفة من دون إنجاز. مثل هذا الوضع، سيلحق الضرر بالإدارة الأميركية التي تعي أنَّ الإنجاز الإقليمي لا يمكن احتسابه أصلاً من دون دفع العملية السلمية المتوقفة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
إنَّ مثل هذه التصريحات الإسرائيلية عن الاستيطان، ليست فقط مجرد خطوة سياسية، بل هي (بالنسبة إلى الأميركيين) علامة على «ضعف الولايات المتحدة»، كأنها غير قادرة على فرض أيّ إملاء على حليفها الإسرائيلي (هي أصلاً لم تفرض على الإسرائيليين شيئاً تاريخياً). لكن هل هذا يعني أزمة حقيقية؟ أم خلافاً بين حليفين؟ التاريخ بين الدولتين لا ينبئ بأزمة «منقطعة النظير»، كما يحلو للبعض تسميتها. فلتعريف الأزمة، جوانب عديدة، وهناك من يرى مصلحة في تضخيمها؛ الأميركيون معنيون بتضخيمها لإثبات أنّ دعمهم لإسرائيل «ليس أعمى»، والمعارضة في إسرائيل معنية لإثبات أن «بيبي (نتنياهو) أتلف العلاقات الاستراتيجية بين البلدين»، والإعلام الإسرائيلي موحّد على رأي مفاده «لمن تركتم إيران إذاً؟».

أزمة ثقة وتكتيك واستراتيجيا



إدارة أوباما لم تعد تحتمل إهانات نتنياهو وستستغلّ هفواته إلى الحدّ الأقصى
علي حيدر
تجاوزت المواقف الأميركية «الغاضبة» من الأداء الإسرائيلي فكرة ردة فعل على «خطأ» إسرائيلي في التوقيت. لا خلاف بأنّ إعلان حكومة بنيامين نتنياهو عن مخطط بناء لمئات من الوحدات الاستيطانية في القدس الشرقية، خلال وجود نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن في الأراضي المحتلة، هو إجراء خارج عن إطار اللياقات الدبلوماسية، ومن شأنه أن يزعج إدارة الرئيس باراك أوباما، شأنه شأن العديد من القرارات التي اتخذتها حكومة «بيبي» منذ أن تألّفت. لكن، رغم ذلك، من الصعب تفسير كل ما أعقب هذا القرار من ردود فعل ومواقف أميركية حيال الدولة العبرية، وحكومتها الحالية تحديداً، على أنه ناتج فقط من إعلان استيطاني «حسن النية، لكن توقيته خاطئ».
في إطار مقاربة «الأزمة» القديمة ـــــ الجديدة بين واشنطن وتل أبيب، من الصعب تجاوز البعد الشخصي المرتبط بالإهانة المباشرة لشخص بايدن، ومن ورائه الرئيس أوباما، الذي يبدو أنه شعر بأن الإعلان الاستيطاني الإسرائيلي الأخير أطاح ما بقي من صورته لدى الشارع العربي ـــــ الإسلامي، وتحديداً بعدما تراجع أمام إصرار نتنياهو بشأن ملف تجميد البناء في المستوطنات المستثناة منها القدس الشرقية، ونحو ثلاثة آلاف وحدة سكنية أخرى في طور البناء في الضفة الغربية المحتلة.
أما من ناحية الأسباب الأكثر عمقاً للأزمة «الأكبر منذ 35 عاماً»، والتي دفعت واشنطن إلى تحويل إعلان استيطاني، كان بالإمكان التراجع عنه أو احتواؤه، إلى صورة أزمة حقيقية بين الجانبين، فيأتي السؤال الآتي: ما الذي دفع واشنطن إلى تحويل القرار الاستيطاني في شرق القدس، إلى إهانة للإدارة الأميركية؟ وهل هناك ربط بين هذه «الأزمة»، والتوجهات الأميركية في المنطقة؟
تنظر الولايات المتحدة إلى تحريك المسار الفلسطيني في هذه المرحلة، على أنه جزء لا يتجزأ من توجهاتها الإقليمية، وفي مقدمها مواجهة الملف النووي الإيراني، وأوضاعها الميدانية المتأزمة، وخصوصاً في أفغانستان. ربط لا تخفيه واشنطن عندما تعترف بأنّ حل الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي هو مفتاح الاستقرار الدائم في المنطقة.
وهنا يكمن أحد مصادر الخلاف، بما أن نتنياهو يرفض هذا الربط، لأنّ «الحل يبدأ من إيران وينتهي بفلسطين»، على عكس ما تراه واشنطن. من ناحية ثانية، ما كان نتنياهو ليستطيع، حتى وإن رضخ للمطالب الأميركية، أن ينفّذ مطالب واشنطن في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ويعود ذلك إلى التركيبة الهشّة لائتلافه الحكومي، وغلبة اليمين المتطرف عليه، فضلاً عن قوة هذا اليمين المتطرف داخل الحزب الذي يرأسه «الليكود». وقد أمّن هذا الواقع لنتنياهو القدرة، حتى الآن، على التملص من المطالب الأميركية واحتوائها، بل دفعها إلى «التواضع» في نهاية الأمر، والتنازل عنها: من مطلب تجميد الاستيطان، إلى التجميد المؤقت والمشروط. ثمّ من مطلب المفاوضات المباشرة بشأن القضايا الجوهرية على المسار الفلسطيني، إلى «محادثات تقارب غير مباشرة» رغم التقديرات غير المتفائلة لما يمكن أن تترتب عليها من نتائج.
معنى ذلك أنّ واشنطن وصلت، على صعيد المسار التفاوضي، إلى حدّ لم يعد يمكنها توظيفه بما يتلاءم مع توجهاتها في المنطقة، الأمر الذي يفسّر تلقّفها لقرار الاستيطان الأخير، الذي تزامن مع وجود بايدن في تل أبيب، وهو ما أوجد فرصة لإظهار خلاف بين الإدارة الأميركية والتوجهات الإسرائيلية. ويرى كثيرون أنّ هذه الصورة هي التي كان الأميركيون يحتاجون إليها في هذه المرحلة، ويأملون أن توفر ثماراً في الشارعين العربي والإسلامي، توظّفها لمصلحة أولوياتها المباشرة.
أما في ما يتعلق بمآلات السجال الحالي، والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه، فيمكن الإشارة إلى النقاط الآتية:
يُرجَّح أن تستغل واشنطن أزمة الإهانة التي تعرّض لها بايدن، إلى الحدّ الأقصى، بما يمكّنها من تقديم نفسها، أمام الشارع العربي تحديداً، على أنها على خلاف جدي مع تل أبيب بشأن القضية الفلسطينية، على الأقل من أجل التخفيف من إحراج الأنظمة العربية «المعتدلة» الموالية لها.
من جهة أخرى، من المبكر تقدير مآلات الأمور في الساحة الداخلية لدولة الاحتلال رغم وجود إشارات أولية لإعادة تأليف الحكومة على أسس جديدة.
سيبقى الطرف الفلسطيني الرسمي خلال هذه الفترة، عاملاً سلبياً، بمعنى أنه سيكتفي بتأدية دور المشاهد المنتظر لما ستؤول إليه الأمور، وما ستقرّره الإدارة الأميركية في نهاية المطاف.
أخيراً، يجدر تأكيد مسلّمة أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ستبقى راسخة تحكمها مصالح استراتيجية متبادلة، إلى حدّ التداخل العضوي بين الطرفين. وعليه، لا يمكن الأزمة الحالية أن تصل إلى حدّ اتخاذ إدارة أوباما إجراءات عملية فاعلة، من شأنها أن تؤذي أو تضرّ بالمصالح الأمنية والسياسية للدولة العبرية.
رغم ذلك، ترى إدارة أوباما أنّ نتنياهو تجاوز كل الحدود التي يمكن أن تحتملها. بناءً عليه، سيكون البيت الأبيض مضطراً للتحرك بين حدّين؛ الأوّل يتعلق بلوازم الخطة الأميركية لمواجهة إيران النووية و«الإرهاب»، على الساحة الفلسطينية. والثاني يتعلق بإبقاء سقف الأزمة ضمن حدودها، وخصوصاً أنّ المرحلة مقبلة على استحقاق الانتخابات النصفية للكونغرس.

المطلوب رؤية سياسيّة



سيستغرق الأمر أسابيع، وربما أشهراً، كي يكون ممكناً القول كم أن هذه الأزمة أزمة ثقة شخصية ونهج سياسي أو أزمة أعمق تهدد طبيعة العلاقات الأميركية ــ الإسرائيلية

معاريف ــ ألون بنكاس
في العقود الأربعة الأخيرة، تبلور حلف أميركي ـــــ إسرائيلي. ورغم أنه جاء في سياق الحرب الباردة والعلاقات التي بنتها القوتان العظميان مع الدول الصغيرة التابعة لهما في الشرق الأوسط، فإن أسسه ليست فقط استراتيجية، بل ناجمة أيضاً عن قيم وأفكار. التطور الأخير لا يغير العلاقة التبادلية بين دولتين غير متماثلتين في كل بعد: مجال المناورة ودائرة المصالح الإسرائيلية محتوى دوماً في داخل دائرة المصالح الأميركية. عندما تحتك الدائرة الإسرائيلية بالأميركية، تتقلص حرية العمل الإسرائيلية. هكذا كان الأمر عندما أعادت الولايات المتحدة «النظر» في العلاقات على خلفية مفاوضات فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل في 1975، وكذلك في حرب الخليج عام 1991 وبعدها، قبيل مؤتمر مدريد، كما في السياق الإيراني. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يكتشف الآن أن المسار السياسي الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني لا ينطوي على تماثل للمصالح. الولايات المتحدة تعارض البناء الاستيطاني الذي تتحمل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة منذ عام 1967. من هذه الناحية، نتنياهو اختير فقط كي يدفع ثمن انعدام الصبر وانعدام التسامح الأميركي، على خلفية التعب والملل العالمي من الانهماك بالنزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني. كل أربع سنوات يحدث مؤتمر و/ أو مواجهة.
يجدر بنتنياهو أن يبدأ بالقلق من الولايات المتحدة لا من ائتلافه
نتنياهو بدأ ولايته بعجز في الثقة مع الإدارة الأميركية، وفعل القليل جداً للتكيف معها. أميركا الجديدة تختلف سياسياً، اقتصادياً وديموغرافياً عن أميركا التي اعتقد أنه عرفها في ولايته الأولى. إدارة أوباما غير معفاة من الأخطاء، لكن القول إنها معادية لنتنياهو من اليوم الأول هو عذر غير جدي لا يعفي قائله من المسؤولية. في كل الأحوال، التوافق يجب أن تفعله إسرائيل، تلك التي ترى ـــــ عن حق ـــــ في العلاقات الخاصة عمود خيمة أمنها القومي. الأزمة الحالية قد تكون مرتبطة بانعدام الثقة بين الإدارة ونتنياهو، لكن جذورها أعمق وتتعلق بالمصالح الأوسع للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. من ناحية سياسية، إسرائيل تقف ضد الموقف الأميركي منذ سنوات. الفارق هو أن حكومات إسرائيلية سابقة ـــــ حكومات رابين وبيريز وباراك وشارون وأولمرت ـــــ أدارت مسيرة سياسية حتى لو لم تنضج أو كانت أسسها موضع خلاف. عندما كانت ثمة مسيرة سياسية، كان مريحاً تجاهل الخلافات، لأن الفرضية كانت أنه في التسوية الدائمة سيبحث كل شيء على أي حال. هنا الخطأ الاستراتيجي الأكبر لنتنياهو، ليس «توقيت» بيان لجنة البناء اللوائية، بل انعدام الرؤية السياسية والمسيرة السياسية. مارتين إنديك، السفير الأميركي السابق في إسرائيل، اقتبس في مقالة له أمس عبارة لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، قالت فيها: «يجدر بنتنياهو أن يبدأ بالقلق من الولايات المتحدة، لا من ائتلافه».