هل تحدث الشرارة من جديد في ٢ أيار؟ المسيرة التي قرّرتها قوى سياسية تدافع عن حق العمال، هل ستحدث الشرارة؟ أم ستنجح الرسائل الغرامية التي يرسلها النظام في مسلسله الطويل (٣٠ عاماً) بشراء الصمت من جديد؟
وائل عبد الفتاح

السلطة على طريقة مسلسلات الصابون



المسلسل هو الفن الوحيد الذي تطوّر في عصر مبارك. المقصود هو الحلقات التلفزيونية. والتطوّر يعكسه اتساع دائرة البيزنس الخاص بإنتاج حلقات درامية طويلة لها جمهور واسع تلتقطه شركات الإعلان، وتستثمره في قنوات تعرض 24 ساعة من الحلقات.
وبعدما كان عبد الناصر يهتم ببرامج الإذاعة وأصوات مذيعيها، والسادات ببرامج حكاياته الذاتية، شهدت سنوات مبارك ازدهار المسلسل التلفزيوني باعتباره «الصناعة» الأولى لمصر في مجال الإعلام، الذي كان وقتها رسمياً، ثم حدث الانفجار الهائل بظهور قنوات خاصة تعرض 24 ساعة من المسلسلات التلفزيونية.
فيض لا يتوقف، ولا يمكن تأمله أو متابعته، له موسم كبير في شهر رمضان، ومواعيد ثابتة، يسعى فيها المسلسل إلى اللهاث وراء المشاهد لا العكس. فالمسلسل سيصلك وقتما تريد، وإن لم يكن على هذه القناة، فسيكون على قناة أخرى. ليس المهم المتابعة ولكن التقاط أطراف من حكايات متناثرة تحاكي الواقع (مع التركيز في المرحلة الأخيرة على السياسة) مختصرة الدراما، ذلك الفن الواسع (المهتم بمآسي وكوميديا الإنسان في السينما والإذاعة والتلفزيون والمسرح) في تلك الروايات التلفزيونية التي تحسب بالساعات.
المسلسل… عقلية كاملة سيطرت على صنّاع القرار من التلفزيون والبيزنس، إلى السياسة وقصور الحكم. كل القضايا الكبرى تحوّلت إلى «مسلسلات»، بدايةً من شركات توظيف الأموال حتّى هشام طلعت مصطفى. لا حسم، ولا نهاية متوقّعة، بل تطويل مرهق يبرّد الحدث، لكنه لا يمنع من متابعته وتحويله من «صدمة» إلى «حكاية» يمكنها أن تشغل الليالي المملّة بتصاعد مثير للحدث.
العقل السياسي الذي حكم مصر في الخمسينيات والستينيات اعتمد على فكرة الصلابة واختار «الخطابة» كتراث قديم يعبّر عن فروسية البطل، وتراث حديث يصعد بها الزعيم الملهم إلى الشرفات ليحدّث الحشود الغفيرة ويعلّمها ويمنحها دروساً في التاريخ.
عبد الناصر اعتمد على الخطابة، بما أنها ساحة مواجهة وحسم لمعارك مع الأعداء المقيمين خارج ساحة الجموع، صلابة بلا دراما. وظل ناصر حكاية إرشادية، أُحادية الاتجاه بلا تفاصيل ولا ثنايا درامية.
السادات درامي أكثر، وخطاباته لم تخلُ من درامية «البطل السينمائي» لا «الحربي» كما كان عبد الناصر. برامج السادات الحكائية كانت تكمل صورته «الريفية» المعتمدة على روايات شفاهية تحوّله في الليالي إلى أُسطورة، تسيطر على عقل مشاهد يرى فيه «عمدة» بلا بطولات، لكنه الحكيم والداهية وصاحب الخبرة والمقام والمركز الاجتماعي.
مع مبارك أصبحت المسلسلات حقيقة واقعة، وترسّخت أشكال «SOAP OPERA»، وهي أشكال من الروايات الإذاعية والتلفزيونية ظهرت في أميركا منذ ثلاثينات القرن الماضي تحت رعاية أو إنتاج شركات المنظّفات الصناعية (وهذا سر تسمية الصابون).
بعض الحلقات بدأت مع انفجار «الصابون» في منتصف الثلاثينات ولا تزال مستمرة إلى الآن. الحلقات كانت موجّهة غالباً إلى جمهور ربّات البيوت.
الحلقات تحوّل الزمن إلى سائل بلا مواجهات مع حدث بعينه، وتنقل الاهتمام كله إلى المشاعر، وهو ما يمنح «أوبرا الصابون» طابعها الرومانسي، وتأثيرها العاطفي المبالغ فيه.
في أوبرا الصابون يمكن لحدث صغير أن يفرّع الحكايات وينقلها إلى منطقة أخرى، وهي متاهة مركّبة، لكنها لا تربك المشاهدين لأنها تشعرهم بانتصارات لا تصدم قيمهم ولا برامجهم العاطفية.
السياسة في أيام مبارك نزعت إلى أن تكون «أوبرا صابون» لأنها تناسب «العقل الهلامي» المشغول بالوجود في اللحظة، لا الماضي ولا المستقبل.
غريزة البقاء تدمّر جسور الوعي بين الماضي والمستقبل، وتدفع العقل المسيطر إلى «متاهات» لا نهائية، يسيل فيها من ذروة إلى ذروة. هكذا بلا قيم كبيرة ولا أفكار كبيرة، كما أنه لا يُشغل بالتفاصيل الصغيرة التي يمكنها أيضاً أن تصنع فناً جميلاً وحياة لا تقلّ جمالاً.
عقل الصابون يهتم بالتشويق، أو بالتفصيل (لا التفاصيل) لكي يظل البطل بطلاً والنهاية متوقعة (لأنها لن تصدم أحداً أو لن تحمل مفاجآت غير متوقعة)، لكن الأحداث تسير كأنها بديل «الحياة» التي يتابعها جمهور منتظر على الأرائك أو طاولات المطبخ.
هكذا تحوّل انتظار لحظة محاكمة هشام طلعت مصطفى إلى حلقات فرعية عن الصور وصراعات المحامين وحروب شركات المقاولات وغيرة رجال السلطة من قرب إمبراطور العقارات من الرئيس وعائلته.
الحكاية لم تعد عن قاتل ومحرّض وقتيلة، ولكن عشرات الحكايات، وحشود تطلق الزغاريد لإفلات هشام طلعت مصطفى من الإعدام، وتقصٍّ لمعاركه داخل نخبة الثروة والسلطة، وبالتدريج تغيب مفاهيم العدالة لمصلحة متابعة مصير «البطل» الذي خلع البدلة الحمراء وتجدّد أمله في الخروج.
جمهور مسلسل الملياردير والمغنيّة سينسى بعد قليل مركز الحدث، وسيغرق في التعاطف مع البطل المنتظر عودته إلى الحياة. هكذا تسيل القضايا وتتفكّك النواة الصلبة للحدث ويهتم الجمهور بخطوط السير لأبطال الحدث… ومصائرهم.
التعامل مع السياسة على أنها مسلسل مثل التعامل مع الحياة على أنها فيلم رسوم متحركة، سيعود البطل فيه للحياة بعد أن تدهسه البلدوزرات، أوهام تحوّل الحياة إلى طرفة والمأساة إلى شيء يمكن تجاوزه، والاستبداد إلى حلقة في مسلسل لا يعرف نهايته إلّا المؤلف المستتر خلف باب غرفته في كهف سري.

قوّة بلا مراهم



تبدّلت الأحوال بالنسبة إلى نظام مبارك. لم تعد تفيد مراهم المسكّنات في إسكات جيش «محدودي الداخل»، الذين كانوا إلى الأمس القريب يكوّنون نواة «عشّاق النظام»

لم يعد لدى النظام من يستجيب لرسائله الغرامية. النظام كان عاطفياً طوال العشرين سنة الأولى من حكم مبارك مع من يسمّيهم «محدودي الدخل». هم الجيش الجرّار الذي يمثّل القاعدة الاجتماعية لنظام «وراثة الجنرالات».
الكائنات المسمّاة «محدودي الدخل» كانوا عشّاق مبارك، ينتظرونه كل عام في عيد العمال ليسمعوه النداء الذي يطرب أذنيه ويشحن مشاعره كأب راعٍ وفرعون مسيطر. كان مبارك يبتسم كلما سمعها ضعيفة في البداية: «المنحة…». ابتسامته تتسع والحماسة تشتد لتصبح غناءً جماعيّاً «المنحة يا ريّس».
يعود الريس إلى القاعة ووجهه متهلّل وسعيد بأنه سيستجيب لأطفاله «محدودي الدخل»، ويمنحهم «علاوة» توضع على الراتب مثل مرهم مسكّن.
مبارك جنرال لم يضع البدلة العسكرية على جسده منذ اللحظة التي رآها ملطّخة بدماء رئيسه السابق السادات. لكنه يعرف ويدرك جيّداً أنه يحكم بالمنطق العسكري «الأقوى يعتلي».
ولهذا عندما شعر مبارك بأزمة بشأن مقعده الرئاسي، ظهر مع جنرالاته واحتفل بتحرير سيناء في قلب الجيش الثاني. ومن هناك أرسل تهديداته.
أكد مبارك امتلاك نظامه القوة، رغم أنه يدرك بغريزة الحاكم الأبدي أن المراهم السنوية لم تعد صالحة لصناعة القبول عند الناس، ولا لتجييش «محدودي الدخل» لدعم النظام.
وأزمة المرحلة الأخيرة في عهد مبارك أنه «يعتلي» بدون مراهم ولا قواعد اجتماعية. كل الشرائح تشعر بالمعاناة، من العامل الذي يصرخ من يوميته (٣ جنيهات ونصف جنيه) إلى الموظف الذي يحتاج إلى علاوة ٥٠٠ في المئة ليشعر بأنه لن يبيع شرفه يومياً ليكمل الشهر، حتى التاجر أو صاحب المصنع الصغير الذي وصلت ثروته إلى الستة أصفار.
كلهم يشعرون بالمعاناة. ولا يطمئنّون إلى الرسائل الغرامية السنوية أو تلك التي يرسلها النظام في مواسم الطوارئ كلما احتاج إلى السند المعنوي.
لن يسمع مبارك في عيد العمال نداء «المنحة يا ريس»، لأن الانتظار لم يعد للمنحة بل لتطبيق قرار محكمة القضاء الإداري برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه (210 دولارات تقريباً). ويبدو أن هذا هو سبب الارتباك في تنظيم الاحتفال الرسمي بعيد العمال، الذي لم يتحدّد بعد.
مبارك لا يزال في شرم الشيخ، والقاهرة تحوّلت أرصفتها إلى مخيمات احتجاج على «ظلم» الحكومة. النوم في الشارع سينتقل خطوة أخرى يوم 2 أيار، حين تتشابك خطوط الاحتجاج في مسيرة واحدة تطالب بتطبيق قرار رفع الحد الأدنى للأجور، وترفع شعار «قليل من العدل... لن يضر».

شراء السياسة




«نشتري كل شيء»، عبارة مكتوبة على جدران القاهرة. إعلان دائم عن تجارة تعتمد على الرغبة في «البيع». بيع أيّ شيء. تجارة تعتمد على شطارة التاجر وأمواله في اقتناص فرصة الاحتياج إلى البيع.
أحمد عز، أهمّ منتجات تطبيق نظرية «نشتري كل شيء» في سياسة السلطة. اختاره الحزب الوطني الحاكم ليواجه محمد البرادعي في أول مناظرة بين «الحزب الحاكم» و«حركة التغيير» بثّتها شبكة «سي أن أن» الأربعاء الماضي.
البرادعي بدا مقتنعاً بدور غاندي، داعية سياسي، وليس سياسياً بالمعنى الذي تفرضه قوانين نظام مبارك. شاب في منتصف العشرينات كتب على التويتر تعليقاً على المناظرة: «النظام ده علشان تحاربه مش عايز واحد مثالي. عايز صايع من شبرا».
المناظرة كشفت أن دهاء عز خاص. دهاء جعله في كل مرة يؤكّد أن «مصر مقبلة على زمن مثير»، وأن «البرادعي ضد نفسه»، لأن من هم حوله «ليسوا متطوعين بل مجموعة يساريين متطرفين فشلت سياساتهم في الستينيات… والإخوان الذي يريدون ديموقراطية على طريقة أحمدي نجاد».
لم يكن أحمد عز يحرّض الأميركيّين على البرادعي بدقّ الأجراس الحمراء واستخدام الكلمات المثيرة (الستينيات وإيران)، ولكن هذه هي حدود تفكيره، أنّ السياسة بيع وشراء فقط.
أحمد عز يشبه إلى حد كبير شخصية من عالم الرسوم المتحركة تؤدّي دوراً لا تعرف إلى أين سيوصلها في آخر القصة.
أحمد عز ابن ثروته. ربما تكون أحلامه القديمة هي أن يكون عازف غيتار، كعشرات غيره من أبناء تجار الحديد في السبتية أو وكالة البلح، ويريدون أن يتقدموا خطوة في الالتحاق بالطبقة الوسطى العليا. غيتار أحمد عز سيظل متحكّماً في حياته. هو الرمز الذي تدور حياته حوله، اشتراه بقوة المال (مال أبيه) وكان دائماً أكبر من حجمه، وأراد به أن يكون في وضع اجتماعي مختلف.
السياسة تفعل هذا الآن. هي الطريق الذي اختاره أحمد عز ليصنع من ثروته سلّماً للوصول إلى مكانة لا تؤهّله قدراته العادية للوصول إليها.
وكما كان أحمد عز محدود الموهبة في الغيتار، فهو في السياسة لا يمتلك سوى كفاءة التسلل إلى مناطق الضوء. لا وجود سياسيّاً لأحمد عز قبل أن يكوّن ثروته بالطريقة التي حيّرت الكثيرين. هذا يعني أنه اشترى الوجود السياسي كما اشترى الغيتار. وعاش في دور «الزعيم» السياسي كما عاش في دور الموسيقار. كلّها محاولات للخروج عن «حدوده» لكن باستخدام ثروته لا مواهبه أو قدراته.
وكما يقول المثل المصري «يلّي اشترى غير يلّي ربى»، فإن أحمد عز، الذي اشترى مكانته السياسية لا يعرف السياسة إلا من طريق واحد فقط: شراء الولاء.