فراس خطيبلم يكن الموت هذه المرة بحق أطفال غزّة، هذه المرّة كان بحق من جاء للتضامن معهم. ولكنّ التقليد لم ينكسر، غزة تحيا مرة أخرى من عناوين الموت.
في ساعات الصباح الباكر، أعلنت لجنة المتابعة العليا للجماهير الفلسطينية في الداخل عن اجتماع طارئ في مدينة الناصرة. في الطريق إلى هناك، كان الإعلام العبري ينقل «التخبط الإسرائيلي» عبر الإذاعات. من كان يبحث عن نقاش أخلاقي أو إنساني بعد مقتل نشطاء سلام غير مسلحين في قلب البحر لم يجده في الإعلام العبري ولن يجده حسبما يبدو. ففي مثل هذه الحالات، الأصوات تتحد كلّها داعمةً للجيش «الأكثر أخلاقية في العالم». النقاش دار على أثير الإذاعات حول «صورة إسرائيل»: اليمينيّون رأوا أنّ هذه العملية «ضرورية»، بينما رأى «اليسار المتنوّر» أنّ ما يجري «ضربة لصورة إسرائيل». لا أحد يناقش، لا أحد مشغول أصلاً بغير ذلك، لا بمصير الجرحى ولا بمحاسبة الذات بعد القتل. حتى رئيس حزب «ميرتس» السابق، يوسي بيلين، الذي يعدّه بعض العرب «شخصية سلام» ظهر غاضباً على شاشة القناة الإسرائيلية الثانية، يطالب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالعودة، من أجل ترتيب قضية شرح موقف إسرائيل.
وإذا كان في وضع الديموقراطيات الطبيعي أن تنتفض المعارضة على الائتلاف الحكومي، ففي الدولة العبرية حدث العكس تماماً. تسيبي ليفني، رئيسة المعارضة، أسقطت اقتراحات حجب الثقة عن الحكومة وأعلنت أنّها مستعدة للمساعدة لتبييض صورة إسرائيل في العالم. في تمام العاشرة بدأت الصورة تتضح بالنسبة إلى الإعلام العبري. في هذه الأثناء، أنهت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية اجتماعها الطارئ واتخذت قرار الإضراب العام اليوم الثلاثاء، على أن يشمل كل مرافق العمل والمدارس والمؤسسات.
ودانت اللجنة الجريمة، معتبرةً إياها بمثابة مجزرة حقيقية ضد الضمير الإنساني. وحذرت السلطات الإسرائيلية من استفزاز المتظاهرين، في المدن والقرى العربية، الذين يتظاهرون، كحق طبيعي وشرعي، ضد هذه المجزرة.
وفي السياق، قال النائب جمال زحالقة، لـ«الاخبار»، «إنّ هدف السلطات الإسرائيلية هو وقف التضامن مع غزة». وأضاف «على الحكومات العربية أن تتحرك، فإذا سكت العرب سيسكت العالم»، مؤكداً أنه «يجب اليوم إفشال المخطط الإسرائيلي» وأن «هذه هي اللحظة لبدء تفكيك الحصار».
وفي موازاة التصريحات السياسية، انطلقت مسيرة في مدينة الناصرة، سيطر عليها الغضب الذي لا يخلو من الصدمة. المئات رفعوا شعارات تندّد بالسياسة الإسرائيلية. على مقربة من كنيسة البشارة، كانت نهاية المسيرة. وجوه الناس عابسة، ففي المسيرات التي تولد من رحم الأحداث طعم يختلف عن مسيرات إحياء الذكرى، لأن الغضب فيها أكبر.
بعيداً عن منصة الخطاب، وقف أربعة عمّال تركوا مهماتهم وانضمّوا إلى المسيرة. أحدهم كان يتحدث بصوت مرتفع: «ما الذي يريدونه بعد. هؤلاء يريدون تعليم العرب درساً والعرب يتعلمون. يريدون تكسير أنف العرب». بينما قال آخر «هكذا هم يتعاملون منذ النكبة، ولكن أن تصل إلى هذا الحد فأنا لم أتوقع رغم وحشيتهم». وغضب ثالث قائلاً «ما الذي يريده الفلسطينيون أكثر كي ينهوا الانقسام؟ عليهم التوحد» قبل أن يبدأ خطاباً سياسياً عن الوحدة المفقودة.
وبينما بدأت الشرطة الإسرائيلية ترفع حالة التأهّب القصوى في القرى والمدن العربية تحسباً من وقوع أحداث «شغب»، شارك الآلاف في تظاهرات متفرقة في كل القرى والمدن العربية. وكان الغضب سيّد الموقف في مدينة أم الفحم، مسقط رأس الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية الشمالية الذي تواردت أنباء عن إصابته. ووقعت مواجهات بين عدد من الشبّان المتظاهرين وبين قوات حرس الحدود، فأصيب شرطيان إسرائيليان واعتقل أربعة متظاهرين.
حيفا كانت هي أيضاً على موعد مع التظاهرات، حيث تجمّع المئات في شارع الجبل. ذلك المكان الذي شهد تظاهرات عديدة تندّد باعتقال الناشطين السياسيين أمير مخول وعمر سعيد، تحول إلى ساحة احتجاج ضد الممارسات الإسرائيلية وسياسة «الكوماندوس» التي تتبعها. والأمر لم يتوقف على أم الفحم وحيفا فقط، بل ساد كل المدن والقرى في الجليل والنقب.
في مقابل هذه المسيرات، تجمّع عدد من الشبان الفلسطينيين على مقربة من ميناء أسدود، حيث وصلت سفينة «مرمرة» التركية. عشرات ناقلات البث انتظرت نهاية الحدث. لكنّ اليمينيين الإسرائيليين توافدوا إلى هناك وبدأوا يعرقلون عمل طواقم وسائل الإعلام العربية. منهم من وقف بعيداً، وبدأ يهتف، رغم كل شيء «الموت للعرب. الموت للإسلام».