رام الله | تجتهد المناضلة الفلسطينية رشيدة المغربي للاعتناء بحوض زراعة على شكل خريطة فلسطين التاريخية يتوسط حديقة منزلها الصغيرة. تقف شاردة الذهن وهي تسقي ما غرسته من زرع صغير. كثيرون لا يعلمون سر هذا الحزن في عينيها، هي التي يفترض بها اليوم أن تملأ الدنيا فرحاً بعودتها من المنفى إلى فلسطين. الحلم الذي راودها سنين طويلة، وخاصة حينما كانت في عتمة زنزانتها التي أمضت فيها 12 عاماً، في العاصمة البريطانية لندن.
المغربي (مواليد 1958) وهي شقيقة الشهيدة دلال المغربي، التحقت بصفوف الثورة الفلسطينية في الثانية عشرة. وتلقت في معسكرات بيروت تدريباتها العسكرية قبل أن تنضم إلى «الهلال الأحمر» وتعمل ممرضة ومسعفة، لكنها مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، أصيبت بثلاث إصابات كانت أخطرها في البطن وتسببت في بتر أمعائها، فحالت دون التحاقها بالقطاع الغربي (جهاز أنشأه خليل الوزير لتنفيذ عمليات فدائية في العمق الفلسطيني المحتل). وبسبب الإصابة رفضت القيادة ابتعاثها، وتطوعت أختها دلال، فكانت «عملية الشاطئ» التي كبدت الاحتلال خسائر كبيرة.

جزاء الإحسان... الاعتداء!

اليوم، لا تستطيع رشيدة أن تحبس دموعها بسبب المضايقات التي تتعرض لها «شقيقة عروس فلسطين»، على أيدي مقربين من السلطة. ومع أن حكايتها ليست إلا واحدة من حكايات مناضلين كثيرين انتهت بهم الحال إلى الإقصاء والتهميش برغم ما كان لهم من دور وطني.

يكفي التذكير بأن المغربي أضربت عن الطعام 12 يوماً عام 2011 احتجاجاً على امتهان كرامتها في وقت سابق، قبل أن تتدخل قيادة السلطة لتسوية المسألة. واليوم تعاني أكثر بسبب تقصير المسؤولين في استجلاب «هوية خضراء» لها تمكنها من التنقل في الضفة.
ناردين طروة، وهي منسقة مجموعة «أخوات الشهيدة دلال المغربي» في جامعة بيرزيت سابقاً، قالت: «رشيدة المغربي مثال على هذا التقصير، فهي إلى اليوم لم تحصل على هوية أسوة بالقيادي سلطان أبو العينين الذي عاد بالتزامن مع رجوعها»، مشيرة إلى أن رشيدة لم تتمكن إلى اليوم من زيارة أيٍ من المدن الفلسطينية برغم أنها على مرمى حجر منها.
ويقدر ناشط آخر، يدعى محمد مؤيد، أن حديث السلطة عن منح المناضلين رتباً عسكرية لا يعني أنهم غير مهمشين، وخاصة في ظل تعمد إبعاد هؤلاء عن دائرة صنع القرار وأي تواصل مع الجماهير. وهذا ينطبق على حال المغربي، فمع أنها استحقت رتبة عميد، فإنها لم تعط سلاحاً شخصياً وحتى مرافقها الشخصي لا يحمل سلاحاً لحمايتها، أسوة بأقرانها في المؤسسة الأمنية.
وفي تاريخ 1/3/2014، تعرضت المغربي لمحاولة إيذاء مقصودة باستهداف إحداهن إياها، بمادة شديدة السمية يؤدي التعرض لها إلى التسبب في تشنجات وتشوش ذهني، أو مشكلات في الكلى والكبد (وفق التقرير الرسمي لمختبرات جامعة بيرزيت التي فحصت المادة ــ يمكن رؤيته عبر موقع «الأخبار»).
ومنذ عام ونصف عام، لم تتخذ الإجراءات القانونية بحق من ألقت هذه المادة على منزل المغربي، كأن هناك من يدعم ويغطي على هؤلاء سعياً إلى طمس دور أي من المناضلين القدامى.
تقول محامية الغربي، سوزان عليان، إن موكلتها مثلت مؤخراً أمام محكمة عسكرية بسبب شكوى كيدية دفعت بها المتهمة «لمضايقة المغربي، وهي أصلاً المتهمة بالدرجة الأولى بإلقاء المادة السامة على منزلها»، وفي القانون الفلسطيني فإن الشكوى الكيدية، هي الناتجة عن تقدم أحد ما بشكوى ضد شخص قدم فيه شكوى مقابلة.
وتلقي عليان اللوم على النيابة العسكرية التي تعمدت تحويل الملف إلى القضاء العسكري قبل البحث في حقيقة الادعاء «مع تغاضي النيابة في الوقت نفسه عن القضية التي رفعتها المغربي لدى القضاء المدني حول واقعة الإيذاء، وكون هذه الدعوى ضدها رد فعل على القضية الأولى». وتضيف: «في حالة المناضلة المغربي هناك إجراءات قبل التوجه إلى القضاء العسكري، اذ يجب أن يكون هناك احترام للرتبة... لم يكن هناك داع للوصول إلى المحكمة الخاصة من الأساس».

تعرضت المغربي لمحاولة إيذاء بمادة شديدة السمية قبل عام ونصف عام

وتطالب عليان وغيرها بأن تكون هناك حماية للمناضلة المغربي، وبأن تتحرك الأجهزة والسلطات المعنية كما تتصرف عادة مع القيادات العليا، من أجل منع أي اعتداءات سلوكية ووقف انتهاك حرمة منزلها وتركها تعيش بسلام وكرامة.
لعل قضية المغربي ليست الأولى في هذا المضمار، فمِن قبلها كان المناضل حسني أبو عقاب (أكبر أسير محرر) الذي مات وهو في اعتصام أمام مجلس الوزراء يطالب بحقوقه. كذلك جرى مع مستشار عرفات، بسام أبو شريف، الذي أقصي بسبب تأييده الشديد لعودة الكفاح المسلح، وآخرون.
آخر الأمنيات التي تركتها رشيدة أمانة بين أيدينا، وهي تنتظر بعد غد (الأحد) جلسة محاكمتها، هي تركها تعيش بأمان وسلام، وأن تحصل على بطاقة الهوية حتى يتسنى لها زيارة مدينة بيت لحم.

رحلة السجن والعودة

بعد استشهاد شقيقتها دلال (1978) بثلاثة أشهر، سافرت رشيدة إلى بريطانيا في مهمة فدائية لم تكشف تفاصيلها الكاملة لكنها كانت ردا ًعلى اغتيال عدد من قيادات «منظمة التحرير»، وهناك ألقي القبض عليها وحكمت بالسجن 12 عاماً، ذاقت خلالها ألوان العذاب وسوء المعاملة والإهمال الطبي.
نسخة من تقرير طبي حصلت عليه «الأخبار» ويوضح طبيعة المادة السامة (الأخبار) | للصورة المكبرة انقر هنا

«الفاجعة» بالنسبة إليها، أنه بعد الإفراج عنها وترحيلها إلى الجزائر، اكتشفت أن إدارة السجن البريطانية استأصلت رحمها دون علمها، ما حرمها فرصة الزواج وتكوين أسرة. أرادت المغربي أن تقاضي الحكومة البريطانية على فعلتها، فخاطبت الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي نصحه مستشاروه بألا يمضي بالإجراءات لأنها ستكون «مكلفة سياسياً»، باعتبار أن ذلك جاء بالتزامن مع التحضيرات لزيارة عرفات إلى لندن لإعادة العلاقات معها بعد قطيعة دامت عقودا.
تقول: «استدعاني أبو عمار إلى تونس، وأبلغني أن القضية صعبة، لكنه أخبرني بأنهم يعملون حاليا لإعادتي إلى الوطن... لدى سماعي الخبر نسيت كل ما حدث معي وفقدان جزء عزيز من جسدي».
منذ تلك اللحظة حتى 2009 ورشيدة كانت تنتظر في تونس، فيما كانت إسرائيل ترفض عودتها إلى فلسطين، حتى جاء المؤتمر السادس لحركة «فتح»، فعادت عبر دعوة مؤقتة في 2/8/2009. ومنذ ذلك الوقت، ترفض مغادرة الضفة المحتلة، برغم أنها لم تحصل على الهوية الفلسطينية، وهي مقيدة الحركة داخل حدود مدينة رام الله فقط. تختتم: «أفضّل سجن الوطن الصغير على سجن الغربة الكبير.... حزمت أمري ومعي كفني لأدفن هنا».