الرباط | في الرابع من شتنبر (أيلول) الجاري، كانت نسبة المشاركة في الانتخابات المغربية عادية، ولا تكاد تتجاوز الخمسين في المئة، ومع ذلك حقق حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، نجاحات كبرى في المدن، حتى وهو يتموقع في الصف الثالث ضمن الأحزاب التي حصلت على أكبر عدد من المقاعد.
لذلك، يرى المراقبون أنه أكبر الرابحين، لاعتبارين اثنين: أولهما أنه ضاعف عدد مستشاريه بـ230٪، وثانيهما أنه حقق نجاحات نوعية، وظفر بأغلبيات مريحة في المدن الكبرى، بالإضافة إلى إسقاطه عدداً من خصومه السياسيين في «قلاعهم» الانتخابية، كحميد شباط (الأمين العام لحزب الاستقلال المعارض) الذي يُعَدّ واحداً من أشرس معارضي الحكومة.
خلال ليلة إعلان النتائج، تحدث كثيرون بإسهاب عن الشعار الذي رفعه «العدالة والتنمية» ــ «صوتك فرصتك للتغيير»، واعتبروا النتائج التي حققها فرصة حقيقية للتغيير على المستوى المحلي بعدما تمكن من تزعم الحكومة بعد «الربيع العربي»، وخاصة «مناضلي الحزب» الذين روجوا أنهم حصلوا على «التفويض الشعبي» لكنس الفساد من المقاطعات ومجالس المدن.
في المقابل، حافظ المراقبون على مسافة مع الحدث، مشددين على أن الحزب حقق انتصارات واضحة لا يمكن إنكارها، لكن تغيير موازين القوى سيكون عملية معقدة.

أبدت كل الأطراف تليين خطابها السياسي لكنها لم «تحطم» الاتفاقات المعلنة

محمد الطوزي، وهو أحد أشهر المحللين السياسيين في البلد، صرح بعد ساعات من إعلان النتائج بأن هناك إمكانية كبيرة لإفراغ انتصار الحزب الحاكم من مضمونه، وأن اكتساحه عدداً من المدن سيجابه بمقاومة من باقي الفاعلين. وأضاف الطوزي أنه ليس بالضرورة أن يحصل الحزب على «رئاسة الجهات» (مجال يضم العديد من المدن وتسيّره شبه حكومة محلية) التي ستخضع لتوافقات وتنازلات وتحالفات، قد لا يتمكن «العدالة والتنمية» من النجاح فيها.

تليين للمواقف


مباشرة، بعد إعلان النتائج من وزارة الداخلية ذات الاختصاص في تنظيم الانتخابات، دعا الأمين العام لـ«العدالة والتنمية» ورئيس الحكومة، عبد الإله ابن كيران، حلفاءه الثلاثة إلى الاجتماع. التقى رئيس «التجمع الوطني للأحرار» صلاح الدين مزوار، والأمين العام لحزب «التجمع الوطني للأحرار» امحند العنصر، والأمين العام لحزب «التقدم والاشتراكية» محمد نبيل بنعبدالله.
اللقاء كان يهدف إلى شيء واحد: تأكيد التحالف والاستمرار فيه على المستوى المحلي، وذلك بإعلان التضامن بين الأحزاب للفوز بأكبر عدد من المقاطعات وعمادات المدن ورئاسات الجهات. المحللون كانوا منذ البداية يدركون صعوبة فرض التزامات المركز على «مناضلي القرب»، إذ تخضع التحالفات لمنطق يختلف عن التحالف الحكومي، ومع ذلك تشبث المجتمعون بإعطاء الأولوية للحلفاء على غيرهم.
في الجهة المقابلة، انعقد اجتماع آخر ضم الأحزاب المعارضة: الأمين العام لحزب «الأصالة والمعاصرة»، مصطفى الباكوري، ونائبه، إلياس العماري، الذي دوماً لقب بـ«صديق صديق الملك» لعلاقته بمستشار الملك الحالي فؤاد عالي الهمة. كذلك حضر الاجتماع الأمين العام لـ«الاستقلال» حميد شباط، والكاتب الأول لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» إدريس لشكر.
خلال هذا الاجتماع جرى التشديد كذلك على أن «الأولوية في التحالفات المحلية عقب انتخابات الرابع من شتنبر (أيلول) ستعطى لأحزاب المعارضة».
مع ذلك، وبرغم بيانات رسمية من الطرفين شددت على التزام التحالفات، بدأت عملية تليين الخطاب السياسي من مختلف الأطراف، لكنها لم تصل إلى درجة «تحطيم» الاتفاقات المعلنة.
لكن بمرور الساعات تبين أن فرض التحالفات على المستوى المحلي سيكون عملية «شبه مستحيلة». فالرسالة الأولى نحو فتح الباب لتوسيع دائرة المتحالفين أطلقها الأمين العام لـ«العدالة والتنمية»، الذي ذكر في تصريح صحافي أن «كل شيء وارد»، ولم يستثن إلا من سمّاهم «الفاسدين».
أما المعارضون له، فتحدثوا في البداية عن أن ابن كيران وحزبه «خط أحمر»، وأنهم لن يدخلوا في أي تحالف سياسي يقوده «العدالة والتنمية». لكن، على الأرض، كانت الوقائع مغايرة، وبدأت تتسع الهوة بين الخطاب والممارسة، وبين الرغبة والحقائق الميدانية.

«خيانات» الحلفاء


بعدما انتهت الاحتفالات بالنتائج بالنسبة إلى الأحزاب التي نجحت، واستيعاب صدمة الانكسار للمنهزمين، بدأت عملية الحساب للجهات التي يمكن الأغلبية أن تظفر بها، وبين تلك التي يمكن المعارضة أن تفوز بها.
كانت للمعارضة أسبقية واضحة، لأن نتائج أحزابها مجتمعة جاءت أحسن من نتائج الغالبية الحكومية مجتمعة. وبرز بوضوح أن ما حققه «العدالة والتنمية» وحده لا يكفي لترجمته انتصارات كبرى على مستوى الجهات أساساً، وبذلك انطلق سباق الجهات بأربع للأغلبية وثمانٍ للمعارضة (التقطيع الترابي الجديد في المغرب يضم 12 جهة).
مباشرة، بدأت معركة التفاوض لتوزيع «كعكة» الجهات الأربع بين أحزاب الأغلبية الأربعة: ابن كيران طرح منذ البداية أن يرأس كل حزب جهة، وأن تقسم بالتساوي بينهم، ولكن «التجمع الوطني للأحرار» اعترض على القِسمة بمبرر أن حليفهم (حزب «التقدم والاشتراكية») لم يحقق نتائج تخوله الفوز بجهة كاملة. هنا بدأ الصراع يشتد داخل «تحالف العدالة والتنمية الحكومي»، ووصل الأمر إلى درجة إعلان قيادات في الحزب الحاكم إمكانية الاتجاه إلى انتخابات سابقة لأوانها.

المفاجأة الكبرى كانت «انفجار» المعارضة ودعوة شباط منتخبيه إلى دعم مرشحي ابن كيران

عندما صدر هذا الموقف، بصورة غير رسمية، عن «العدالة والتنمية»، تأكد أن الخلاف بين مكونات التحالف وصل مرحلة حرجة، وأن إمكانية التعايش صارت صعبة. وقد ترجم الأمر عملياً بتوقف اجتماعات الأمناء العامين وانقطاع الاتصال بين ابن كيران ورئيس «التجمع الوطني للأحرار»، الذي اتهم بأنه «خان» الاتفاقات، وأنه يتجه إلى التصويت على بعض مرشحي المعارضة.
يذكر أن «التجمع الوطني للأحرار» كان في صف المعارضة خلال تشكيل حكومة بنكيران الأولى، وأنه دخل في صراع مع «العدالة والتنمية» استعمل فيه كلاماً جارحاً وجرى خلاله تبادل الاتهامات، وذلك قبل أن يقبل دخول الحكومة بعدما سحب «الاستقلال» وزراءه. ومع ذلك بقي هذا الحزب شريكاً حكومياً «غير موثوق» فيه، ليظهر خلال الانتخابات الأخيرة أنه «الحلقة الأضعف» في تحالفات الغالبية.
أما المفاجأة الكبرى، خلال التحضير لتشكيل مكاتب الجماعات والمدن والجهات، فهي «انفجار» المعارضة. ودون سابق إنذار، قرر حميد شباط، الذي جاء في المرتبة الثانية في عدد المقاعد، دعوة منتخبيه، ليلة التصويت، إلى دعم مرشحي غريمه السياسي عبد الإله ابن كيران، في انتخابات رؤساء الجهات.
شباط، الذي هزم في الانتخابات وخسر قلعته الانتخابية، حاول تدارك خسارته بمد اليد إلى المنتصر (العدالة والتنمية)، ومع ذلك نجحت المعارضة في انتزاع سبع جهات لمصلحتها، خمس منها لحزب «الأصالة والمعاصرة» وحده، الذي صوت له «التجمع الوطني للأحرار» ضد اتفاقات الغالبية، في ما يشبه «الطعنة في الظهر» لابن كيران وحزبه، خاصة أن تحالفاتها كان يمكن أن تنتزع رئاسة جهات أخرى لو التُزمت الاتفاقات.
في المقابل، كان نصيب الغالبية الحكومية، التي أصبحت مهددة بالانهيار، خمس جهات: اثنتان لـ«العدالة والتنمية»، واثنتان لـ«التجمع الوطني للأحرار»، وواحدة لـ«الحركة الشعبية».
مباشرة، عقدت قيادة الحزب الإسلامي لقاء للنظر في ما اعتبرته «انقلاباً» في مواقف حلفائها، لكنها لم تصدر أي بيان وانتظرت انتهاء المسلسل الانتخابي، ليعقد أمينها العام ورئيس الحكومة ندوة صحافية يشرح فيها للناس كل ما جرى، وما الذي حدث حتى تم إفراغ انتصارات حزبه من مضمونها على مستوى الجهات.
مع ذلك، ولأن «العدالة والتنمية» حقق أغلبيات مطلقة في العديد من المدن، فقد تمكن من رئاسة أغلب المدن الكبرى بعدما خسر الرهان في رئاسات الجهات، بعقد تحالفات مع أحزاب من حلفائه ومن معارضيه، لينتهي المشهد الذي بدأ باصطفاء حاد إلى وضعية أن «كل شيء وارد»، وقد فتحت التحالفات لتشمل الجميع ضد الجميع.