ثلاث خيمات
كان مطلع صباحها ككل الصباحات: ترتشف قهوتها، تنظر إلى السماء بعيون نصف مفتوحة، تمتص سيجارتها بشغف، تغطي شعرها بشال أبيض، يتسلل الشعر الأشمط من تحته بخفة. كرسيها الخشبي مكسور الظهر. ترتشف مرة أخرى من القهوة، مستذكرة الأمل الذي كان يعتريها أثناء زيارتها مقر حكومة حماس في قطاع غزة، حيث شربوها وعودهم الغليظة بأن البيوت الحديدية (الكرافانات) التي ستحملها سفينة الحرية، ستوزع بكل عدالة، ولن يستفيد منها إلا من يسكن مثلها في خيمة وبقايا رماد.
ليست المرة الأولى التي تتلقى فيها أم سعد وعوداً كهذه، لكن الفرق أن تفاؤلها كان هذه المرة الأقوى على الإطلاق. ربما لأنها كانت في كل مرة تعاود تجميع بعض الأحجار الهزيلة بعضها بجانب بعض بواسطة مادة لزجة تدعى الإسمنت لتلقي بعدها ألواح الزينكو فوقه لتغطي السقف ولتبدو كأنها تبني أو ترمم ما يشبه بيتها. لكنها هذه المرة حتى الإسمنت غير موجود بسبب حصار غزة، ولا تملك إلا أن تستسلم للوعود وتنتظر. أم سعد تعتقد أن «خيمة عن خيمة ما بتفرق»، ففي حياتها ثلاث خيمات: الأولى عندما كانت في الرابعة من عمرها، تسعفها ذاكرتها بمقاطع باهتة من صورتها، عندما هاجرت مع أسرتها من قرية «يبنا»، ومن يبنا إلى مدينة المجدل ومن المجدل إلى قطاع غزة، لتستقر خيمتها في منتصفه، وليلتصق اسمها باسم خيمتها مدى الحياة. والثانية عرفتها عندما كانت في الأربعين من عمرها حيث هدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيتها بالكامل بعدما فشلت في إيجاد بكرها (المناضل سعد) كما اصطلح الناس في المخيم على تسميته. أما الثالثة، فكان عمرها 65عاماً، حيث نصبتها بعدما استقرت قذيفة الفوسفور في وسط بيتها مسوّية إياه بالتراب في الشتاء الماضي.

صوت دقيق أيقظها من غمرة تحليلها وتفكيرها العميقين: «خالتي ألن تذهبي إلى مقر الحكومة لتسألي عما يجري؟ فالمذيع في الراديو يقول إن الجيش هاجم السفينة في عرض البحر وربما لن تتمكن من الدخول».
أومأت أم سعد برأسها وعادت تنظر إلى السماء وتطفئ سيجارتها العاشرة في الصحن الملوث بالقهوة.
علا أبو حسب الله ـــ مخيم النصيرات

■ ■ ■

ع البارد

علا يا عزيزتي: ظننت للوهلة الأولى أن قصتك تتحدث عن أم أسعد في رواية غسان كنفاني، وغاب عن بالي أن حكاياتنا تتشابه أو تكرر نفسها برغم مرور الزمن.
فأم سعد في رواية غسان عاشت في مخيم برج البراجنة. وهو مخيم كغيره من المخيمات الفلسطينية في لبنان. حيث كان على أهلنا حين هجروا من فلسطين أن يقيموا في الخيم سنوات قبل أن يسمح لهم ببناء أكواخ بالطريقة التي وصفتِ. ولم يسمح لهم ببناء منازل إسمنتية إلا بعدما امتشقوا السلاح. حينها اختتم غسان حكاية أم سعد، بالعبارة الشهيرة «برعمت يا أبن العم برعمت». لم تكن مجرد جملة شاعرية قرر كاتب أن يختتم بها رواية. بل حيث يزرع الظلم والقهر البذار لا تنبت إلا الثورة. لم نعد إلى فلسطين على الرغم من مرور أربعة عقود ونصف عقد على تلك الحكاية. وإدخال مواد البناء ممنوع منذ سنوات. ومنذ أسابيع سقط استثناء كان يحظى به مخيم برج البراجنة. فلسنوات خلت كان ينعم هذا المخيم بتسهيلات تسمح بترميم بيوته المتهالكة. للأسف فإن هذه التسهيلات قد ألغيت. وتساوى أهل المخيم بغيرهم من سكان المخيمات الأخرى. أما مخيم نهر البارد الذي دمر بزلزال بشري و«ع البارد»، فإن إعادة إعماره صارت فيلماً سينمائياً يعرض في مكان بارد، تنخفض فيه الحرارة إلى درجة أنه لم يستقطب أي مشاهد! فيما حصل خبر الاعتداء على الأسطول الذي يحمل كوخ الزينكو الذي كان سيؤوي أم سعد، حصل على أعلى نسبة مشاهدة. فرأى الملايين الوجه الإجرامي الجديد لمحتل فلسطين. وعلى الرغم من فظاعة المشهد فإنه فتح الآمال بانطلاق أساطيل جديدة، أحلم بأن أركب أحدها. سألني صديقي إن كنت خائفاً من أن أعتقل إذا قرصنوا السفينة؟ فأجبته «شو مالك يا زلمة على الحالتين بكون بفلسطين. صحيح بالسجن بس بفلسطين». ثم سألته «مش مفكر تطلع على شي باخرة»؟ أجابني: «ليش لاء خيا. بس تكون السفينة مش رايحة على غزة، ع البارد».
بكيبورد ـــ علاء الزعتر