ضمن مشروع بناء «السلم الأهلي وتجنّب النزاع» الذي تنظّمه الأونروا بالتعاون مع الأمم المتحدة، شارك عدد من الفنانين الفلسطينيين ورسامون هواة في رسم جداريات في مخيم البارد
إيلي حنا
خرق «أحمر» علم تركيا رمادية الشارع الرئيسي في مخيم نهر البارد، وكآبة جدرانه المتآكلة بآثار الرصاص، وحزن الوجوه المروّضة بمعمودية المرور اليومية على حواجز الجيش اللبناني، سمة هذا المخيّم وأهله. هكذا ضرب عدد من جدران البارد موعداً مع الألوان: الأحمر هنا لا يأتي من قضية طارئة، كانتفاضة السفن التي جعلت الهلال العثماني ينافس أعلام أبطال المونديال. فأنامل الفنانين الفلسطينيين في مخيم النكبات، لا بل النكبات زائدة واحدة، لا ترتجل. لذلك، فرضت الحقوق المدنيّة للاجئين، التي سيسيرون من أجلها الأحد المقبل، حضورها في الجداريّات الجديدة في المخيم.
هدف الجدارية التوعية ومناصرة الحقوق المدنية للفلسطينيين وتعزيز الحوار اللبناني ـــــ الفلسطيني، يقول محمود زيدان، مدير المشروع. ولإتمامه، أي المشروع، تواصل زيدان مع سامر ياسين، صاحب المحترف في المخيم، الذي أحضر سبعة من طلابه للمشاركة. هكذا، تعاون حائز الماجستير في الفنون التشكيلية مع تلامذة محترفه لوضع فكرة الجدارية: فكانت رواية الشعب الفلسطيني منذ وجوده في القدس إلى التهجير فمخيمات الشتات. ولبنان المبثوث في كل تلك المسيرة لا يغيب عن الجدارية «لدينا تراث مشترك، أعطونا حقوقنا»، تكاد تقول الجدارية. يبتعد أوس العامر، أحد الطلاب، بضع خطوات بعيداً عن اللوحة متأملاً على عادة الفنانين. لا يحصر طالب التصميم الغرافيكي تفكيره بالمخيم والقوانين الظالمة، فهو يحب بيروت ورمزيتها المقاوِمة، «الآن كل همّ بيروت أن ترضي السيّاح» يقول متحسّراً. ثم يتساءل كيف يعدّ بلد نفسه ديموقراطيّاً «ولا يعطينا حقوقنا. نريد الاحترام على الأقل».
لم تمنع شمس الظهيرة الحارقة أمس المارّة من التوقف لمراقبة الفنانين أثناء عملهم «أصبح هناك داعٍ للتّلفت لهذا الحائط»، تحدّث فتاة أمّها وهي تبتسم. وحدهما، معتصم ومحمود، فاق سرورهما غيرهما، فالجدارية على حائط مدرستهما الذي أصبح شهيراً. لو استطاع معتصم المشاركة لرَسم منزله ومنزل جيرانه. تبدو هذه الصورة عزيزة على قلب ابن السنوات العشر؛ لكونه لم يعد يرى جيرانه منذ حرب المخيّم. أما بلال السيّد، فيعترف بما لا تقوله الألسن: فالجدارية «مش رح تشيل الزير من البير»، وأهالي البارد، برأيه، لا يتقبلون بسهولة جدارية تعبّر عن ضرورة التلاقي مع اللبنانيين والحوار معهم؛ فالجرح لم يندمل بعد، ومؤشر الثقة يراوح مكانه كما يقول. تبدو زميلته أسيل السيّد أكثر تفاؤلاً «لأن مطالبنا حق طبيعي، فبالطبع سنحصل عليها». أما أحمد بدر، فيرى في هذه المعادلة الرياضية خطأً منهجيّاً «لأن اختبار ستّين سنة لم يثبت صحتّها». يضيف: «من الجميل أن نجسّد حقوقنا وقضايانا عبر الفن، لكن التسييس هو المحرّك الرئيسي».
عندما سمع أحمد السعدي بفكرة الجداريات في محترف سامر ياسين، قرّر المشاركة، لا لأن المشروع يستحوذ على أيّ اهتمام جدّي عنده، فهو يئس من الدولة اللبنانية. لكن «لأبين أن هناك فنّانين ومثقفين في هذا المخيّم، لا إرهابيين كما يصوّر». من هؤلاء الفنّانين، سعيد الترياقي الآتي من بشامون. يبدو خريج كلية الفنون الجميلة عام 1988 سعيداً في التفاعل مع المشاة لشرح لوحته «الممثلة للتعاون والتآزر بين الشعبين»، فيما زميله علي عبد العال يصوّر في جداريته تطلّع أبناء المخيم إلى حقوقهم المدنية التي يمثّل «إغفالها إحباطاً يومياً للفلسطينين، فيما سيؤدي تمتعهم بها إلى فتح أفق الأمل أمامهم».


وصل ما تفكك؟

تمثّل الجداريات جزءاً من مشروع «بناء السلم الأهلي وتجنّب الصراع» الذي تنظّمه الأونروا بالتعاون مع الأمم المتحدة في شمال لبنان. ويتضمّن المشروع إنشاء منتديات للحوار اللبناني ـــــ الفلسطيني بين ممثلين عن أهالي مخيّم نهر البارد وأهالي مخيّم البداوي وجوارهم اللبناني «لتوصيل ما تفكّك وإبعاد شبهة العزلة والانعزال عن المخيمات»، كما يشير محمود زيدان، إضافةً إلى تدريب قدرات اللجان الشعبية في المخيّمات عبر دورات يشرف عليها متخصّصون. ويمتدّ المشروع إلى أماكن حدثت فيها نزاعات في الشمال لا تخصّ المخيّمات، كجبل محسن وباب التبانة.