strong>وائل عبد الفتاحأزمة الزواج الثاني وضعت الكنيسة القبطية في مواجهة مؤسسات الدولة، والنظام تدخّل كعادته بمنطق الصفقات السرية، و«شعب الكنيسة» كان وقود الغضب في حالتين، عندما خرج ضد المحكمة، وعندما أخفى حزنه من تحوّل رفض الزواج الثاني سراً مقدّساً

معركة الدفاع عن مساحة الكنيسة



الهاتف يرنّ، المقر البابوي صامت، وعلى الطرف الآخر شخصية رفيعة المستوى تحمل رسالة إلى البابا شنودة.
«اهدأ واطمئنّ، سيصدر قرار سيادي يحل أزمة الزوج الثاني».
في مكان آخر شعر رجل بالتوتر البالغ من الهاتف، هو صاحب الضجة، وبعدما كان يبحث عن حياة جديدة هادئة، لا يعرف مصيره. هل ستتّفق الدولة والكنيسة عليه؟ حصل الرجل على حكم قضائي بعدما حكى حكايته: يريد التخلص من زوجة تشعر بقوّتها، وتعتدي عليه بالضرب. شكوى نادرة، وعلاقة تحوّلت إلى جحيم يومي.
تخلّص الرجل من زوجته الأولى، لكنه عندما ذهب إلى كنيسة رفضت التصريح له بالزواج الثاني، رغم أن مطلّقته حصلت على التصريح، وتزوّجت بالفعل.
طعن الحالم بالزواج الثاني بامتناع الكنيسة، ومنحته المحكمة الحق. وهنا ثارت الكنيسة والبابا، ومن خلفهما جموع حاشدة من المسيحيّين.
البابا شنودة يدافع عن سلطته. فقَدَ جزءاً كبيراً من أعصابه الهادئة، وانفعل خارج وقار منصبه الديني، وحرّض أتباع كنيسته على الامتناع عن تنفيذ القانون، ورفع الإنجيل في مواجهة القانون، وطالب الرئيس بالتدخّل في أعمال القضاء.
قال البابا: «من سينفّذ حكم القضاء سأشلحه» (أي يعزله من منصبه الديني). ووجّه خطابه إلى كهنة الزواج: «إذا جاءكم معترض من الحكومة فقولوا له البابا هو الذي قال لنا لا تنفّذوا». هذا التحدي العلني للدولة ونظامها سار في اتجاه واحد: المحكمة تتدخّل في شؤون العقيدة، على اعتبار أنّ «الزواج سر مقدّس لا إجراء إداري».
هذا ليس الصدام الأول بين البابا، الذي يحمل الرقم ١١٧ في تاريخ البطاركة. صدامه الأكبر كان مع الرئيس السادات، الذي عزله من منصبه في ١٩٨١ وعيّن بدلاً منه مجلساً من ٥ أساقفة، وأعاده مبارك في أول عهده.
ورغم سنوات عمره (مولود في آب ١٩٢٣)، فإنّ البابا تألّق بكاريزما يملكها تجعله يملك سحر الخطابة خارج حدود العظات الدينية. كما أنه يرسل رسائل محنّك سياسي. البابا الذي اصطدم مع الرئيس (في عصر سابق)، ابتعد عن الرئاسة، وضرب بعيداً في الحكومة، وأراد مكسباً أكبر بانتقاده اللائحة التي أقرّها المجلس الملّيّ في ١٩٣٨ (وكانت أساس حكم المحكمة الإدارية العليا الأخير). قال في مؤتمر صحافي: «دُوْل كانوا مجموعة باشاوات وبكوات لا يعرفون في الدين».
البابا شنودة في معركة دفاع عن المساحة التي سمحت له بالدفاع عن «شعب الكنيسة»، ونقلته من «المنصب الديني» إلى منصب يجمع بين الديانة والسياسة.
مساحة صنعتها رغبة الدولة في التحدث مع شخص واحد، أمير طائفة، بدلاً من الحديث مع مواطنين لهم حقوق وأصوات ومطالب. كما أنّ البابا بذكاء اجتماعي حافظ على مساحته المعنوية بالتعنّت في رفض سفر الأقباط للحجّ إلى القدس، ورأى أنّ المسافر هو خارج عن الكنيسة.
هذه الشعبية قدّمت وجهاً وطنياً للكنيسة في عهده، استخدمته الكنيسة في الدفاع عن تحويلها الأقباط إلى «شعب» تحت حمايتها. انفعالات البابا تأتي في إطار فوضى عمومية. السلطات تتعرّض الآن لصدام مزعج.
ليس بعيداً عن انفعال البابا، معركة عضلات بين القضاة والمحامين بعد واقعة محكمة طنطا. استخدام القوة المفرطة، واستعراضها حول المشكلة التي تبدو عادية إلى «قضية». وهذا ما حدث بطريقة مختلفة في قضية الزواج الثاني.
الكنيسة تعسّفت في استخدام حق منع التصريح بالزواج الثاني ضد الزوج المتضرّر من ضرب زوجته. التعسف ظهر عندما اكتشف الزوج أنّ الكنيسة منحت زوجته التصريح ومنعته عنه (غالباً كنوع من انتقام على تفكيره في اللجوء إلى القضاء).
البابا سلطة دينية على رعاياه، لكن وجوده الإداري والسياسي يحدّده قانون الدولة المدنية. والقاضي في المحكمة له سلطة شبه مطلقة، لكن ليس إلى حد استخدامها المفرط خارج حدود القانون. هذه هي الدائرة العبثية.
أصحاب السلطة في عهد مبارك يحصلون على سلطتهم ليس بالقانون، بل بقدراتهم ومكانتهم. وهذا ما يجعل البابا شنودة يشعر بصدمة (شخصية إلى حد ما) في القرار، على اعتبار أنه «مؤامرة» لا يعرف مصدرها ضد سلطته.
هذه الفوضى المرعبة تتوازى مع لحظة انتقالية، يريد فيها النظام أن يعبّر عن قوته الخرافية، ليواجه القلق. وفي الوقت نفسه يبحث كل صاحب سلطة عن خطة لمواجهة حرب المواقع.
هذه الفوضى لها جانب إيجابي لأنها تكشف عن الوجه القبيح لتواطؤ الجميع مع السلطة خارج القانون. وتكشف أيضاً عن تأثير رغبة التغيير في محاولة إعادة وضع أسس جديدة لعلاقات القوى بالمجتمع في مصر، لأن مصر الدولة القديمة، القائمة على القانون، لا يحترم فيها القانون إلا وفق صفقات مع النظام.
ستغمض السلطة عينها عنك، وعن مخالفاتك للقانون، حتى تأتي اللحظة التي تغضب فيها عليك لسبب ما، فتطبّق القانون. تطبيق القانون هنا سيصبح مؤامرة. كما أن حدود التنفيذ ترتبط بالقرب من السلطة.
هذا أحد جوانب أزمة الزواج الثاني للأقباط. وهناك جانب آخر يتعلق بشجاعة غائبة، تخشى من طرح حل جذري للمشكلة، وهو الزواج المدني.
من حقّ المؤسسات الدينية (إسلاميةً كانت أو مسيحية) أن تفرض شروطها على رعاياها، ولكن إن اخترت أنّ أتزوج خارج شروط المؤسسة فمن حقّي تماماً. الزواج المدني يعتمد على قاعدة أساسية هي أننا مواطنون لا رعايا.
والمواطن من حقّه الاختيار بين تنفيذ قوانين تجبره على أن يكون رعية، وبين أن يتعامل تعاملاً حراً، ومعترفاً به قانوناً.
البابا من حقّه أن يختصر أسباب التطليق في الزنى، لكن ليس من حقّه تعطيل حياة أكثر من ٨٠ ألف شخص، لأنه يجبرهم على حياة تعيسة، والدولة تشاركه في التعسف بتعطيلها قانون الزواج المدني.
الدولة ستعيد إلى البابا سلطته الضائعة، لكن بعد أن تضمن سيطرته على قوة الأقباط في الصناديق، وضد الدعم المعنوي لنقّاد النظام وخصومه. الخاسر هو الشخص العادي الذي يتحوّل إلى دمية تتطاير في لعبة الأهواء السياسية.

حرب على الهويّة



انتقلت النشاطات الاجتماعية من المنازل إلى الكنائس والمساجد، وتحوّل مكان العبادة إلى بديل للمدرسة وللنادي. اختفت مؤسسات الانصهار في هوية اجتماعية، وظهرت علامات التديّن في المظهر والأسماء
صحيح أنّ الأقباط وصلوا إلى مناصب حكومية أساسية، (وزير مالية ووزير بيئة وأخيراً محافظ)، لكن عادةً ما يجري اختيارهم بمنطق التمثيل النسبي. فهناك مقاعد محجوزة لهم في الحكومة والمؤسسات الصحافية وغيرها من مؤسسات النخبة السياسية التابعة للدولة. كما أن وجود الأقباط في مجلسَي الشعب والشورى يحصل عادةً بالتعيين، أي برغبة رئيس الجمهورية في إحداث توازنٍ لا يتحقّق بالانتخاب الطبيعي.
إنّها أعراف وضعتها الدولة منذ عهد عبد الناصر، لكنها تحتاج اليوم إلى إعادة نظر. فالدولة في حينها، كانت تريد «توحيد» المجتمع. تريد أن تقود «أمّة عربية واحدة»، وتعطي انطباعاً عن خصوصية مصرية، ولذلك رأت فئات بين الأقباط أن ثورة تموز أنهت «عهدها الذهبي» إذ تولّى اثنان من الأقباط مناصب وزارية مهمّة قبل 1952، ولم يكن وجودهم السياسي يعتمد على العلاقة بين رئيس الجمهورية وبابا الكرازة المرقسية.
العلاقة بين البابا والرئيس، لا قواعد المواطنة، هي التي تحدّد «الوضع القبطي» اليوم. فالعلاقة الجيدة بين البابا كيرلس السادس وعبد الناصر، هي التي حالت دون الوصول بالاحتقان إلى مداه في شعور الأقباط بالاضطهاد.
هذا طبعاً إلى جانب أنّ نموذج عبد الناصر أعطى انطباعاً علمانياً. أي إنه لعب بالدين، وخصوصاً في لحظات الهزيمة عندما أوحى أنه يستمد بَرَكة من السماء. لكن لم يكن واضحاً في حينها ما إذا كانت السماء مسلمة أو مسيحية، والدليل الأبرز هو تركيز صحف الدعاية الناصرية على ظهور العذراء في كنيسة الزيتون عام 1968 على أنه «معجزة مسيحية». لكنّ النظام أراد أن يوظّف هذه «المعجزة» لمصلحته ليقول للناس المحبطين إنها رسالة تأييد من السماء.
ومع أنور السادات، وصل الاحتقان إلى مداه الأقصى. استقالت الدولة من وظيفتها الاجتماعية، وتصاعدت لعبة استغلال الدين. كان السادات يعيد الدولة إلى الوراء ليكون هو «رب العائلة» و«الرئيس المؤمن». وفي الوقت نفسه، كان يربط مصر بعجلة الإمبراطورية الأميركية، ويحوّل الاقتصاد إلى ملعب للغرائز المتوحّشة في تكوين ثروات غير شرعية. ولأن السادات أراد حماية نفسه، أضاف إلى الدستور مادة تقول إن «الشريعة الإسلامية هي مصدر السلطات»، أي إنّ مصر تحوّلت إلى دولة إسلامية، لا بل «سنيّة»، تقبل الطوائف والأديان الأخرى على اعتبار أنها أقلّيات. ومن هنا بدأت «حرب غير معلنة على الهوية».
في هذا المناخ، يبدو التطرف فكرة لامعة، وهدفاً قائماً بحد ذاته بدلاً من الدعوة إلى مواطنة مصرية صحيحة. وبدلاً من الرغبة في معالجة شؤون مصر، أصبح هناك «هموم الأقباط»، و«قضية الأقباط».

زعماء الطوائفاختفى الأقباط من المجتمع، وأصبحوا رعايا كنيسة اقتربت من أن تكون «دولة داخل الدولة». ترك لها النظام إدارة «الأوقاف القبطية» في مقابل تأمين «12 مليون قبطي»، وهو الرقم الذي تسرّب في أحد الحوارات التلفزيونية للبابا.
اختفى الأقباط وراء أسوار معزولة، وفي ظل مجتمع مهووس بمواهب كرة القدم، لم يعد في الدوري المصري لكرة القدم، لاعب واحد قبطي. ولم يظهر لاعب مسيحي في تشكيلة المنتخب الوطني بعد هاني رمزي، نجم الفريق المشارك في مونديال 1990.
الهستيريا الإسلامية المشغولة بالسيطرة، قابلتها هستيريا مسيحية تسعى إلى الانسحاب والبحث عن قوة وميزات الجماعات المغلقة. النظام سعيد بمطالبات مجموعات الأقلية والمزاج العام طائفي، من دون تنظيمات طائفية. يسأل المتفرج على إحدى القنوات الدينية الشيخ المتصدي للفتاوى: قتلت بسيارتي شخصاً، لكنه مسيحي، هل له دية؟ الشيخ ابتسم في حكمه: قال له لا تخشَ شيئاً يا أخي، ستكون له دية، ولكنها صغيرةً.
مزاج يداعب الكفر بالدول الحديثة، والعودة إلى أعراف مجتمعات قديمة. المواطن يتصوّر أن اتّباع القوانين يخرجه عن عقيدته. هكذا أصبح الكهنة والقساوسة زعماء طائفيّين، بعد سنوات من تحوّل المشايخ إلى قادة معارضة الدولة الحديثة، يحرّضون ضدها وضد علاماتها، بدايةً من التلفزيون، إلى التعدّد الديني، إلى درجة أنْ روّجت جماعات التطرف الإسلامي لضرورة الحصول على جزية من المسيحيين، ورأت أنّ أموال المسيحيين ونساءهم غنائم حرب غير معلنة. المزاج شاركت الدولة في صنعه، وخصوصاً أيام السادات، الذي فاجأ الجميع أثناء زيارته للكاتدرائية بطلب سجادة صلاة، وفرد سجّادة الصلاة في حضور الأساقفة، وعاد وحكى لمساعديه أنه كان سعيداً باستفزاز البابا.
استعراضات تغذّي فكرة الدولة داخل الدولة، والضيوف لا الشركاء، وهي مشاعر تغذّي روح الاضطهاد، وتشحنها بشحنات تصنع من العزلة مجالاً للحساسية المفرطة، ترفع شعار «ممنوع من الاقتراب. منطقة مضطهدين».
هذا ما حوّل أزمة الزواج الثاني إلى مستوى الحرب على الله، لا مجرد خلاف بين البابا ومعارضيه. وكما يرفع الإخوان المسلمون في مصر المصحف في وجه الدولة، فإن الكنيسة رفعت الإنجيل.