ازدواجية المحظور والمسموحوائل عبد الفتاح
تحب أجهزة النظام في مصر استخدام كلمة «المحظورة». كلمة سحرية تشير إلى سلطة ترسم الحد الفاصل بين الشرعية والحظر، وهو ما استخدمته أجهزة النظام مع جماعة «الإخوان المسلمين». اسمها الرسمي الآن في صحافة النظام «الجماعة المحظورة»، وبعدما ترسخ الاسم أصبحت تكتب اختصاراً وتدليلاً «المحظورة». الجماعة استأثرت بالاسم، رغم أنها ليست وحدها الذي ينطبق عليها «حظر العمل السياسي»، ورغم أن أجهزة التحقيق استخدمت الوصف أخيراً مع شباب من «الجمعية الوطنية للتغيير»، التي أسّسها الدكتور محمد البرادعي.
لكن يظل الاسم مرتبطاً بالجماعة المصنّفة أنها «أقوى تنظيم سياسي معارض في مصر»، بل إنها «المعارضة الوحيدة القادرة على منافسة الحزب الوطني الحاكم منذ أكثر من ٣٠ سنة».
بدا الاسم هنا خارج عن دلالته المباشرة، وأقرب إلى توصيف حالة مصرية بامتياز، تجسّدها نكتة في الستينيات، حين كان المنادي في أوتوبيسات النقل العام يلفت نظر الركاب بصوت عال إلى أنهم وصلوا إلى محطة «المطار السري».
في الستينيات معنى النكتة مختلف، ويشير إلى حالة السرية الوهمية في بلاد على مرمى الجواسيس وأجهزة الاستخبارات من كل مكان في العالم. الولع بالأسرار نواة في بناء النظام، لم يستطع التخلي عنه رغم تغيّر الحياة، والعلاقات والظروف. لكنّ النواة الأمنية، وغريزة المنع والحظر، تعملان بغض النظر عن الكفاءة أو التوافق مع العصر.
وفي عصر «غوغل إيرث» وانقلاب مفاهيم التجسس، لا تزال هناك أجهزة تعلّق لافتة «ممنوع الاقتراب والتصوير». والنكتة أنها لم تعد تعلّق على المناطق العسكرية فقط، بل على مسرح في حي الزمالك، ملحق بناد لضباط القوات المسلحة.
غريزة تتحرك آلياً، ونواة صلبة، رغم القوة الناعمة التي غيّرت كثيراً من أوجه الحياة في مصر، وضاقت عليها الأطر القديمة.
لم تقبل أجهزة النظام بتعدد سياسي، ولا بفكرة أحزاب حقيقية خارج سيطرة النواة الصلبة، ولم تأت الفكرة إلا مع حسني مبارك البعيد عن صورة «البطل الأيديولوجي المحرر» أو «النجم القائد إلى الحياة الرغدة». مبارك التكنوقراطي الحريص اخترع أسلوباً يستفيد به من المحظور والممنوع والسري، من دون أن يمنحه الاعتراف الكامل.
تعمل الجماعة وتحتفظ باللقب: المحظورة. ويطارد ضباط وعساكر «البلدية» الباعة المتجولين في شوارع القاهرة، لكنّ الاقتصاد السرّي يضخّ في مصر ما يقرب من ٨٠ مليار جنيه حسب الإحصاءات الرسمية، و٩٥ مليار جنيه حسب مراكز بحثية غير حكومية. وإذا أضيفت إليها تجارة المخدرات، فسيصبح الرقم ٢٠٠ مليار جنيه.
التحكم في الاقتصاد السري، مع استمرار سريته وحظره، هو اختراع نظام مبارك الذي عاش به ٣٠ سنة تقريباً، لكنه لم يعد قادراً بالطبع على ملاحقة رغبات المجتمع في الخروج من الأزمة الراهنة.
لم يعد الاقتصاد السري قادراً على تكوين أطر حديثة للنمو الاقتصادي، كما لم يعد السماح لجماعة الإخوان بالعمل تحت سمع أجهزة الأمن وبصرها يصلح ليكون مؤشر اتساع الهامش الديموقراطي.
هذه الأساليب في استمرار نظام السيطرة بالأطر المتهالكة، خلق أزمة كبرى، وتتوالد منها أزمات يومية تشير كلها إلى شروخ في بنايات عتيقة.
تتحدث أوساط القضاء والأعمال منذ فترة عن «فضيحة رشوة» قدمها رجل الأعمال المعروف محمد فريد خميس إلى مسؤول في مجلس الدولة. النيابة العامة حفظت التحقيقات واكتفت بإحالة القاضي المرتشي على «الصلاحية»، أي أنهت خدمته، وذلك بناءً على عرف تراعى فيه سمعة «صرح قضائي شامخ».
بعض الصحف خرجت عن هذا العرف ونشرت تفاصيل من التحقيقات، وهو ما دفع رئيس مجلس الدولة إلى تقديم بلاغ للنائب العام ضد صحافيين في «المصري اليوم» و«اليوم السابع» نشروا التفاصيل بما يهزّ هيبة القضاء.
المستشار محمد الحسيني اعتمد على العرف القديم ودافع عن عدم نشر الصحافة تفاصيل قضايا يُتهم فيها قضاة، حفاظاً على هيبة القضاء، وما دام قد طُهّر الجهاز منهم.
عُرفٌ يعتمد على التحكم في المسافة بين العلني والسري، وهي مسافة تتحكم فيها عادة السلطة التنفيذية، كما أنها تتنافى مع رغبة المجتمع الحارقة في الشفافية.
والأهم أن بطل قضية الرشوة هو رجل أعمال قريب من النظام، وعضو لجنة سياسات، ويعتمد على هواه الناصري في صنع جسور بين النظام وأجنحة في الصحافة والمعارضة. هو ترس قوي في ماكينة النظام، والكشف عن أساليبه في تكوين الثروات وإدارة أعماله يهم مجتمع يتخيّل أن خلف أسوار قصور النخبة المالية والسياسية أساطير من ألف ليلة حديثة.
اعترافات محمد فريد خميس في تحقيقات النيابة، كما نشرت في الصحف، مرعبة، لأنها تشير إلى أسلوب في التعامل مع القضاء بمنطق «تخليص القضايا»، وتعني رشوة المحكمة أو التلاعب في الأوراق لكي يسرّع أو يمنع تطبيق القانون.
خميس اعترف بأنه تعاقد مع محام (هو وسيط الرشوة) يحصل على10 في المئة من قيمة أي حكم يحصل عليه. النيابة سألت عن طبيعة عمل المحامي، وهو كما يثبت في الأوراق حصل على أتعاب عن قضايا لم يتقدم فيها بمذكرة أو يترافع فيها أمام محكمة.
ردّ فريد خميس مدهش، قال: «هذا صحيح، فأنا لم أصدر له توكيلاً للمحاماة، واتفاقي معه على أن يخلّص القضايا بمعرفته، من دون رفعها أو الحضور فيها أو المرافعة فيها أمام القضاة».
هذا اعتراف يهزّ مصر، لا سمعة القضاء أو مجلس الدولة فقط، ومن يرد الدفاع عن السمعة فلا بد أنه سيتوقف أمام «تخليص القضايا».
كيف يمرّ هذا الاعتراف من دون التحقيق على أعلى المستويات في الشبكة السرية لتخليص القضايا؟ الفكرة متداولة في النميمة الشعبية، لكنها هذه المرة مثبتة في تحقيقات النيابة، ونشرت في الصحف، ولم تزعج أحداً.

البحث عن شريكبعد ما بدا من انفراط لعقد هيئة التغيير برئاسة محمد البرادعي، وانتهاء مرحلة الشراكة غير المعلنة مع الإخوان المسلمين، بدأ النظام بمشروع صناعة شريك لإمرار انتقال السلطة

يبحث النظام عن معارضة مختارة. لم يعد «الإخوان المسلمون» على هوى مرحلته المقبلة. انتهت مشاريع أميركا وأوروبا بشأن «دمج الحركات الإسلامية» في الحياة السياسية. وانزعج الأميركيون بما يكفي من الجماعة وأدائها المتوتر في العلن، بعد سنوات من العمل السرّي. انتهى دور الإخوان كشريك، وبقي كفزاعة سياسية.
ورغم أن النظام قرر استعادة الأرض التي تركها لجماعة «الإخوان المسلمين» بالقوة، وبكل الوسائل المشروعة والممنوعة، فإن هناك جناحاً، في الغالب، يريد أن يحدث هذا الاكتساح، ولكن مع الحفاظ على الوجه الديموقراطي.
وهنا تبدو الفكرة مغرية تماماً: صناعة حزب يبدو كبيراً، أو يبدو في صورة منافس قوي.
أوّلاً هذه الفكرة تؤكد أن النظام لا يزال هو اليد الفاعلة الوحيدة في الحياة السياسية، وهذه عقيدة أساسية في حكام مصر منذ ثورة تموز. الجنرالات وخلفاء الجنرالات يرون أن كرسي الحكم من حقهم، ومن دونهم ستسقط الدولة وتتفكّك، إيمان راسخ يجعلهم يتصورون أن استمرارهم في الحكم حق مطلق ولمصلحة البلد كله.
هذه النظرة غالباً تبرّر الاستبداد، وتمنحه بريقاً أخلاقياً جذاباً. فالديكتاتور يضحّي من أجل البلد، وبعد قليل تتصاعد هذه المشاعر حتى يصبح هو البلد والبلد تجلّ من تجلّياته.
والصحافة حتى الآن لا ترى عيباً في أن تقول «مصر مبارك»، في إشارة إلى الرئيس حسني مبارك، بعد سنوات من «مصر السادات» و«مصر عبد الناصر». الديكتاتور هنا هو صاحب البلد ومالكها ويديرها كما يريد.
لا تزال السياسة هي ما يسمح به الديكتاتور. وعندما أراد عبد الناصر توحيد الشعب كله في تنظيم سياسي واحد على الموديل السوفياتي، أتى السادات بعده ليفتح الباب أمام تعددية، وقال لمساعديه: اعملوا منابر. ثم قال مرة أخرى، بعد وحي أميركي: خلّوها أحزاب.
هكذا ساعد تصميم الدولة على مقاس حكامها في أن يختاروا المعارضة على هواهم. وليس بعيداً أن السادات حين أراد إنهاء الاشتراكية تماماً، رحل مع منتخبه السياسي إلى حزب آخر، وأرسل بعض الاحتياطي إلى حزب العمل ليصبح حزباً كبيراً للمعارضة.
مبارك يختار معارضيه أيضاً، ويحرّك الحياة السياسية بالمنطق نفسه: أنا منقذ مصر… ولن أتركها تضيع. وعندما لاحت أحلام جمال مبارك في السلطة، قدّمها مستشارو أبيه على أنها قفزة ديموقراطية جديدة، يُنشئ فيها الابن حزباً (اسمه المستقبل) ليكون الحزب المنافس للحزب الوطني، على طريقة الجمهوريين والديموقراطيين في الولايات المتحدة.
فشلت الخطة، واختار حسني مبارك سيناريو دمج أحلام الابن في الحزب القديم، وأصبح جمال وصحبته عبئاً على تركيبة لم تمثّل يوماً ما حزباً سياسياً بالمعنى المتعارف عليه، لكنه منتخب منتفعين ووسطاء لتحقيق المصالح.
رغبات مجموعة جمال حاولت أن تمنح شكلاً حديدياً لكائن هلامي، وهذا ما يفسّر المعارك بين مرشّحي الحزب، لأنها صراع على موقع الوساطة، وهي انفجارات تنتهي بنهاية الانتخابات، ويعود المرشح بعد نجاحه إلى الحزب، البوابة الوحيدة لتحقيق المصالح.
والآن تظهر الحاجة إلى صناعة حزب كبير. هدفه الجديد: استيعاب نزعات التغيير المتصاعدة والسيطرة على الكورال السياسي بعد حال الفوضى والنشاز عن نغمة «الهامش الديموقراطي».
البرادعي لا يصلح، لأنه خارج عن اللعبة، يغويه دور الداعية السياسي أكثر من السياسي. يرى نفسه في صورة غاندي أو مارتن لوثر كينغ. هذه صورته التي استفزّت كورساً سياسياً سارع إلى الالتحاق بسفينته. علّقوا عليه آمال الوجود السياسي. أرادوه قاطرة، وأراد نفسه خفيفاً، بلا برنامج ولا جهاز سياسي. وهذا ما صدم ركاب السفينة. وقبل أن يقفزوا منها، قفز البرادعي، وأصبح هناك كيان بلا رمز، ورمز تعجّل صنع كيانه، والآن هو وحيد في مواجهة فوضى الملعب السياسي. يزور كتلة الإخوان النيابية، وتتكاثر أقاويل عن تحالف، ويتحدثون عن استغلال لترميم جراح الأيام السابقة.
هكذا تبدو رغبة العثور على شريك تسير باتجاه حزب الوفد، الأكثر استقراراً، وصاحب التاريخ السياسي الجذاب لشخصيات كبيرة تريد المشاركة السياسية، بعيداً عن شروط أحمد عز المسيطر على المفاتيح.
«الوفد» يدخل مرحلة جديدة بعد فوز رجل الأعمال السيد البدوي برئاسة الحزب، ليمثّل انتصار شريحة «الكمبرادور» أو وكلاء الشركات الكبرى (هو وكيل شركة أدوية كبرى تنتج الفياغرا)، إضافة إلى كونه من حزمة مالكي القنوات الفضائية، وهم حزمة مختارة، لا يخشى النظام ألفتها.
السماح بدخول الوفد دائرة المعارضة المختارة هو إشارة إلى فكرة إمكان تحويله إلى حزب كبير، ولكن بمقاييس غير أميركية. أي يبقى في موقع المشاغبة البرلمانية. هذه تصورات النظام عن الشريك.
لكن هذه الشراكة يمكن أن تفلت من قبضة النظام إذا استقطب «الوفد» شخصيات لها وزن اقتصادي، بما يعني أنها ستستقطب مجموعات من رجال أعمال يسعون إلى كسر سطوة الحزب الوطني. هذا الانفلات ربما يكون خطوة مهمة في تطوير النظام السياسي.
ربما.