دولة مجانين
كأيّ مكان يخضع لسلطة ما، يخضع المجرم لسلطة القانون، هذا إن أُلقي القبض عليه طبعاً.
هنا، عندنا، لا يختلف الأمر كثيراً. فقط الحكم يصدر دائماً بحسب هوية القاتل و... الضحية! ولنشرح: على سبيل المثال، لو كان المتهم عربياً، والضحية يهودية، فهو، أي العربي، بدون أدنى شك مذنب. حتى إنه لا داعي للتحقيق معه، هذا إن لم تنسب أسباب الجريمة إلى خلفية عنصرية على أساس القومية أو الدين. وإذا كان العكس، أي إن المتهم يهودي والضحية عربية، فستجري محاولة إثبات براءة المتهم بشتى الطرق. وإن أُثبتت التهمة عليه، برغم كل شيء، يأتِ الحكم بالآتي: إنه مجنون.
المشكلة أن التهم التي يخرج منها المتهمون بشهادة مجنون، هي في ازدياد مستمر. بتعبير آخر، إن الجرائم المرتكبة بحقنا نحن العرب، هنا، في هذه البلاد تشهد ازدياداً غريباً.
ففي تاريخ 4 آب 2008، ارتكبت في «شفا عمرو» المدينة العربية الجليلية (الجليل الأسفل) مجزرة في إحدى الحافلات. الضحايا 4 مواطنين عرب و15 جريحاً. الفاعل شاب من مستوطنة تفواح القريبة من نابلس في الضفة الغربية. أطلق النار ففرغ مخزن بندقيته، وفي الوقت الذي كان يحاول فيه إعادة تعبئة المخزن، هاجمه الناس وقتلوه. طبعاً، «الحكم العادل» قضى بتقديم «القتلة»، أي الذين دافعوا عن أنفسهم، للمحاكمة، بدعوى أنه مجنون لا يجب قتله!
حزيران 2009، شاب يهودي (روسي) يقيم في مدينة نتسيريت عيليت (الناصرة العليا اليهودية) يقتل شاباً عربياً من مدينة المغار بعد تأكده من أنه عربي. القاتل لم يقدَّم للمحاكمة، فقد كان الحكم مسبقاً: «مجنون»!
لم يالُ الناس جهداً في التنديد. تظاهرات عفوية، تجمعات شبابية، نددت محذرة من المستقبل القريب: «قاتل العربي مجنون وقاتل اليهودي مجرم»، أو «المحكمة تعطي الضوء الأخضر لقتل العرب». قد تكون هذه مجرد شعارات، لكنها فرضت واقعيتها علينا عبر السنين.
في حالات أخرى حيث تكون الضحية «عربية»، ولا يعرف إن كان المتهم عربياً أو يهودياً، لا تحاول أي جهة من جهات القضاء التحقيق «في قضية خاسرة أصلاً». فالتهمة تسجل ضد مجهول. أما إذا كانت الضحية فتاة عربية، فالتهمة طبعاً ضد مجهول، وعلى خلفية شرف العائلة بدون جدال.
لا إدري إن كانت هذه القضايا تعني أي شيء لأيٍّ كان، لكن في دولة يزيد فيها عدد المجانين على عدد المواطنين، لا عجب من أن ارتكاب جرائم حرب بحق فلسطينيين أو تعذيب في السجون أو مضايقات مستوطنين لسكان فلسطينيين وعدم محاكمة أيٍّ منهم هو أمر أكثر من عادي، فمجنون من يقدم مجنوناً للمحاكمة!
الجليل ــ أنهار حجازي

التحريف بالخيال

كلامك ذكّرني بأحد الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن مجزرة صبرا وشاتيلا، ومن أجل الصدقية، أعترف بأنني لا أذكر اسم الفيلم ولا المخرج، لكنني شاهدته على قناة الجزيرة الوثائقية باللغة الإنكليزية. في الفيلم مقابلات مع عناصر من حزب الكتائب اللبنانية ممن ارتكبوا مجزرة بحق أبرياء مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982. أما المُضحك في الموضوع، فهو أن أكثرهم كان يحاول أن يقنع الصحافي بأنهم كانوا تحت تأثير المخدرات التي تناولوها رغماً عنهم قبل بلوغ المخيم!
في فيلم «فالس مع بشير»، وهو فيلم آخر عبري يسوّق رواية إسرائيلية لاجتياح بيروت، تحديداً قبل مجزرة صبرا وشاتيلا وخلالها وبعدها، يُستخدم أسلوب الرسوم المتحركة، رغم أن الأشخاص الذين جرت مقابلتهم هم إسرائيليون حقيقيون كانوا في بيروت أيام الاجتياح. «ليش الرسم إذا كانوا فعلاً حقيقيين، وعم يحكوا وقائع تاريخية؟»، سألت نفسي. الأغرب هو التبرير بأسخف الطرق للغطاء الذي وفّره الإسرائيليون للقوات اللبنانيّة لدخول المخيم وقتل سكانه. إذ يقول أحد الجنود في الفيلم (طبعاً وهو مرسوم ومش بصورته الحقيقية): «لم نكن نعرف أن الكتائب سيدخلون المخيم لقتل الأبرياء، هم أخبرونا أن هناك مجموعة من المخربين في المخيم، لكنهم قتلوا النساء والشيوخ والأطفال!». وددت لو أقابل هذا الأبله لأقول «إيه يعني تسلملي شو حنون؟ ليش الإشي اللي سمّوه دولتك ما قتلت الأبرياء بدير ياسين وجنين وبعدها بتقتل حتى اليوم؟!». في فيلم «فالس مع بشير»، يستغل الإسرائيليون صبرا وشاتيلا بغباء، تماماً كالهولوكوست، علماً بأن أجداد أجدادهم هم من قتلوا بالمحرقة! هكذا، يسوق الإسرائيليون رواياتهم. فإن كانت الصورة الوثائقية دامغة يغيبونها باسم «الفن»: لا دماء في الرسوم المتحركة. فقط أشخاص من ورق. ضحايا غير حقيقيين لمجرمين «أبرياء» أو كما عندكم مجانين.
إيمان بشير