لم يصدّق الكثيرون بعد أنّ الفرد العادي يمكن أن يختار رئيس الجمهورية، هناك «جماعة كبيرة سريّة» تختاره. والآن هذا الفرد نفسه لا يقدر على التفكير في اختيار حياته، فالجماعات تكبر ويقوى جبروتها في السر، وأجهزة الدولة ستسلّمك. إنها فاشية صغيرة، ولها حرّاسها
وائل عبد الفتاح

عصر الانبهار بالنموذج الخليجي



الخبر صغير، وعادي جداً: «محافظة القاهرة اعتمدت فكرة تاكسي السيدات». لن يتوقف أحد أمام الخبر، على العكس سيعدّه قطاع كبير من المجتمع «خطوة مهمّة في احترام النساء والحفاظ على الأخلاق. والحماية من الجرائم الجنسية». القطاع المرحّب لا يستهان به. هم روّاد الشواطئ المغلقة على النساء في البرجوازية العليا، وأنصار عربة السيدات في المترو من البرجوازية العادية.
البرجوازية قلقة على أخلاقها الجديدة. وبعد رحلة قصيرة من الإعجاب بالنموذج الأوروبي المتحرر، المتمرد على التقاليد «الشرقية» والمسافر إلى محطة أخرى من ثقافة الفرد وحريته، ومدنية تضع قانون أخلاقها بمعايير أكثر اتساعاً وميلاً إلى الحرية الشخصية.
البرجوازية المصرية تعود إلى أخلاقها مصحوبة بشعور من العار. تبحث عن انبهار بمكان آخر، وهذه المرة تنبهر بالنموذج الخليجي. تسمع في شوارع القاهرة: «يا ريت تبقى الشوارع واحترام المرور زيّ السعودية»، أو «هو فيه أحلى من دبي وعمارات دبي ومولات دبي».
اقتراح تاكسي السيدات مستوحى من دبي. صاحب الاقتراح أراد أيضاً أن يكون اللون البنفسجي هو اللون المميز للتاكسي، كما هي الحال في دبي. محافظة القاهرة اعتمدت المشروع، لكنها رفضت اللون. إلى هنا انتهى الخبر، الذي يكشف عن وصول الانبهار بنموذج دبي إلى الحدود الاجتماعية بعد الهوس بالأبراج والتسوّق، وأحياناً بكوزموبوليتانية الحياة المفتوحة المتعددة الثقافات.
هل هذا هو الشكل الجديد من المدنية المتعددة؟ ما هو تأثير المال على شكل المدينة؟ وهل ستصنع الثروات ما كانت تفعله الحضارة؟ هل يمكن أن تكون هناك مدن حاملة للحضارة ولا تنتجها؟ هل التعايش بين كل هذه الثقافات سينتج ثقافة مفتوحة؟ ما هي حدود الحرية وأشكالها وطريقة تنظيم الحياة في مدن تتجه إلى عصر ناطحات السحاب من دون العقول التي صنعت ناطحات السحاب؟
لماذا أصبحت دبي نموذجاً اجتماعيّاً ومعماريّاً؟ لماذا أصبحت المدينة الناعمة المقامة على سطح جاف لا يمتصها هي سقف الأماني في مدينة قديمة، متعددة الطبقات الحضارية، امتصت تربتها خصوبة تلاقح حضارات متباينة؟
على طريق مصر الاسكندرية الصحراوي «مولات» فخمة، ضخمة، تستوحي صرعة دبي في كل ما هو ضخم وفخم. تحاول أن تصنع مدينة من لا شيء تقريباً. دبي خدعة، ربما تكون جميلة، مثل ألعاب الملاهي، لكنها تمثل أزمة المجتمع في الخليج الذي يستهلك أعلى إنجازات الحضارة، ولا تتطور معها العقليات والنظم الاجتماعية.
هكذا تبدو الحرية في دبي قشرة، لا أحد يجتهد في تحويلها إلى جدل وأفكار وثقافة فاعلة. إنها جزيرة الاستهلاك الكبرى، ولا مانع هنا من أن تقرر إمارة دبي تخصيص تاكسي خاص بالسيدات، لتحاول تحريك مجموعة في المجتمع لا تزال تعيش في معازل الحريم.
القاهرة أيضاً كانت نموذجاً لمحاولة المصريين الالتقاء بحضارة أوروبا والبحر المتوسط. محاولة عبّرت عن نفسها في مدن جميلة، تمنحها روح الفن ذلك السحر الذي لا يزال مؤثراً رغم كل محاولات تشويهه وقتله يومياً.
إنه سحر مصر الذي يبدو أنّ المصريّين لا يشعرون به، أو يشعرون بهزيمته في مواجهة ثقافة الخليج ونماذجه المصنّعه. الهزيمة أمام نموذج الخليج هاجس مصري منذ لحظة تزامنت فيها هزيمة حزيران للمشروع المصري، مع انفجار الثروة من باطن الأرض في الخليج، واستقطابها لملايين المصريين الباحثين عن الثروة.
لم يتغيّر التفكير في علاقة القاهرة بالنموذج الخليجي. لا يزال الرفض متوقفاً عند نقد ثقافة «البترو دولار» تحت إحساس بالخيبة: كيف كانت مصر وكيف أصبح الخليج؟
هذه فكرة لا ينافسها في السخف إلّا تقليد نموذج الخليج من كل الذين يلعنونه صباح مساء. إنه انسحاق يعبّر عن هزيمة، كما يعبّر أيضاً عن ملمح خطير في مصر، وهو أنّ الثروات الهابطة على حفنة ضئيلة وليدة طفرة أو انفجار يشبه إلى حد كبير انفجار البترول، لم يتعب فيه أحد، ولم يكن نتاج جهد عقلي وإبداعات عملية. ولكن ثروة هابطة، على أرض جافة، والنتيجة نباتات عشوائية، لكنها عشوائية فخمة.
لم يفكر أصحاب اقتراح تاكسي الحريم مرةً واحدة خارج المنطق الذي يسعى إلى الانغلاق. لم تمنع عربة السيدات في المترو التحرش الجنسي، ولم تنتهِ الجرائم الجنسية في السعودية طوال سنوات حبس الحريم وراء أسوار القصور.
إنه تفكير يخص ثقافة انحطاط، ونظرتها القاصرة. إنها حلول اللحظة التي تجعل أحداً ما يبول في الشارع، استجابة لحاجته الضاغطة، من دون التفكير في ما سيهدمه بالفعلة الغريبة، أو بما سينتج منها من أمراض وكوارث أخرى. تفكير يداعب أخلاقاً مهزوزة تشعر بالعار والرعب معاً.

طقوس التسليم للقبيلة




لم يعد الفرد في مصر فرداً بحدّ ذاته. هو جزء من قبيلة ذات هوية، طائفيّة في الغالب، يسير وفق أحكامها. ممنوع التمرّد أو الخروج عن القوانين العامة المحروسة من أجهزة الأمن التي تدير حفلات طقوس تسليم «الضالّين»

يقولها الرجل ببساطة مدهشة: لقد عادت كما يعود الخروف الضال إلى الحظيرة. كاميليا، اسم جديد في تاريخ العواطف الملعونة، أسيرة جديدة في الدير، سلّمتها أجهزة الأمن إلى الكنيسة، والكنيسة سلمتها إلى طبيب نفسي ليعالجها من متاعبها.
هكذا عادت كاميليا، زوجة راعي كنيسة دير مواس، مثل الخروف الضال، الذي قال رئيس الكنيسة إنّ الرب أعاده ليفرح شعب الأقباط.
لم يستمع أحد إلى «الخروف الضال»؟ سُلّمت بمنطق «أسيرة القبيلة» إلى القبيلة المنافسة. طقوس التسليم جرت كلها بمعرفة أجهزة الدولة من الرئاسة إلى ضباط أمن الدولة.
كاميليا هجرت بيت زوجها راعي كنيسة دير مواس بالمنيا (صعيد مصر)، إلى بيت قريبتها في القاهرة. لم تهرب ولم يخطفها فرسان القبيلة المنافسة، ولم تكن تحتاج إلى تدخّل الرب لكي تعود إلى القطيع.
لكنّها عادت بالإكراه كما عادت قبلها وفاء قسطنطين، التي قررت قبل ٦ سنوات تغيير دينها من المسيحية إلى الإسلام لتحصل على الطلاق. وهنا بدأت المأساة (زوجها له رتبة كبيرة في الهيراركية الأرثوذكسية). تحوّلت إلى رمز في حرب طائفية غير معلنة. قصتها أيقظت النار النائمة تحت الرماد.
المؤسسات الكبيرة لم تحتمل. لا الكنيسة ولا الأمن ولا الرئاسة، ولا حتى الأحزاب. كل هؤلاء لم يحتملوا الدفاع عن حرية سيدة تبلغ من العمر 46 عاماً. ليس هذا فقط، بل إنهم جميعاً لم يحتملوا قرارها بالخروج من حياتها إلى حياة جديدة.
قالوا عنها أوصافاً فظيعة. اتهموها في أخلاقها. تحدثوا بالنميمة عن رغبتها في الاستمتاع بحياتها، وبأنها غيّرت دينها لتحصل على الطلاق من زواج لم تكن المتعة على برنامجه.
المتعة عيب؟! والحرية الشخصية آخر شيء يمكن احترامه. أما الشعور بالفردية أو بالقدرة على الخروج من القطيع، فهو ضرب من الجنون. يتعامل معه أصحاب القرار بتسفيه.
هكذا بدت رسالة البابا وكهنة الكنيسة واضحة: إنها مريضة نفسياً. هذا ليس استنتاجه، بل استنتاج مصدر كنسي رفيع المستوى كشف للصحف عن «خطة الكنيسة» في الإعلان عن استعراض عودة الخروف الضال، وحبسها في الدير لأسباب نفسية.
إنها «فاشية» من نوع خاص. الجماعة فيها تقهر الفرد وتقمع حريته، وتشاركها الدولة بكل أجهزتها وجبروتها، في طقس التسليم.
«لا نريد مشاكل»، هذه مكالمة هاتفية إلى قضاة في مجلس الدولة ليلغى قانون الزواج الثاني، وهذه أيضاً كلمة السر بين أجهزة تؤدّي دور البطولة في عملية «التسليم».
لا أحد يفكر في المرأة. وهم يقرّرون أنّ الحل للخروج من الأزمة هو «التسليم» للكنيسة. كيف يقبل المجتمع الحديث تسليم امرأة إلى مؤسسة (عائلة، كنيسة، جماعة دينية) هربت منها؟ «التسليم» تعبير متخلّف، مهين للإنسانية ومهين لكل من شارك في العملية: البابا والدولة والوسطاء.
لا مصلحة لأحد منهم في تغيير الوضع التعس، الذي قاد امرأة متعلّمة إلى التمرد على حياتها. فجأةً وجدت نفسها مثل سبايا عصر الجواري، يجري التفاوض عليها من دون استشارتها.
الاستسلام لفاشية الجماعات الصغيرة، قدر الضعفاء، والقطيع، والرمز الكبير لشعورهم بالانتماء إلى «شيء كبير « يخلّصهم من الشعور بالدونية والعجز.
وهنا لعبة البطاركة، العواجيز، الباحثين عن سلطة لا حدود لها، ويتقاذفون القطعان البشرية في لعبة بلياردو يعرف كل بطريرك موقعه فيها، وكيف يقذف كرته إلى الحفرة. الحفرة تلتهم حكايات في سلسلة لا تنقطع، حيث يظهر روميو وجولييت بين الحين والآخر، ولأنّ الحب أصبح من اختصاص «أمن الدولة» ويخضع لتوازنات البطاركة، لم يعد للفرد قيمة، لم تعد البنت التي هربت من أجل حبها في بيت بالطالبية (منطقة شعبية بحي الهرم)، مجرد بنت تسير خلف حبها، بل أصبحت ممثلة «قبيلة» أو «جماعة صغيرة» عليها أن تستعيدها وعلى الأمن «تسليمها».
كما سلم «أمن الدولة» كاميليا إلى الكنيسة. خرجت تجريدة عائلية من ٢٠ شخصاً وهاجمت بيت العروسين في الهرم، وتسلّمت «الأسيرة».
الفرد الآن في مصر «أسير» وليس شخصاً حراً، فيحب من يشاء أو يختار من يشاء على كرسي الرئاسة. المصريون أسرى التركيبات المعقّدة التي تختلط فيها قيم السلطة الحديثة، بحراس القبيلة.
ضابط في كمين يستوقف سيارة ويسأل صاحبها: «قولي معاك إيه بدل ما تتعبنا في التفتيش». صاحب السيارة يستفهم: «أقولك عن إيه بالضبط؟» الضابط في استغراب: «يعني بانغو أو خمور».
يستغرب الشاب ويسأل من قبيل الاستفهام: «هل أصبحت الخمور ممنوعة في مصر؟» الضابط أجابه بثقة وحماسة: «لا، ولكن أنا شفت إنو مكتوب في بطاقتك مسلم».
الشاب لم يكن يحمل معه شيئاً، لكنه تعجّب من ممارسة صلاحيات على الهوى الشخصي، وممارسة السلطة خارج القانون. من الذي عيّنه شرطياً على الأخلاق يفرض ممنوعات ليست موجودة في قائمة الممنوعات؟ ومن الذي سمح لتجريدة عائلية بالهجوم لاستعادة «ابنتهم» من زوجها المسلم؟
الأديان كلها تحترم الاختلاف في نصوصها المقدسة، وتسمح بحرية التدين وتقوم على مبدأ «لكم دينكم ولي دين». والدستور في مصر يحمي حماية مباشرة الحرية الشخصية ويحترم اختلاف الأديان ويعترف بتعددها.
إنها حمّى «الدفاع عن القبيلة».