أيام صعبة عاشتها «دولة القانون» مذ عودة السيد مقتدى الصدر إلى طهران، حيث صدرت إشارات تفيد بانسحابه من الاتفاق مع نوري المالكي، عادت وتبدّدت أمس مع إجهاض مكيدة كان يتعرض لها هذا الأخير، في ظل مناورة صدرية لتحالف يجمع الائتلاف الموحد والعراقية والتحالف الكردستاني، وتوقعات بانفراط عقد الكتل الكبرى إذا طال أمد الأزمة الدستورية
إيلي شلهوب
نجح السيد مقتدى الصدر، معتمداً على المناورة حيناً والتعنّت أحياناً، في انتزاع خيوط إدارة اللعبة من نوري المالكي، الذي يبدو أنه يتعرض لمحاولة التفاف يقودها التيار الصدري بتحريض من المجلس الأعلى، تستهدف التوصل إلى اتفاق مع «العراقية» والأكراد بما يضمن الخروج بتشكيلة تستجيب لشروط الصدريّين، أو بالحد الأدنى ابتزاز دولة القانون لتقديم المزيد من التنازلات.
يأتي ذلك في وقت يشيع فيه التيار الصدري أجواءً تفيد بانسحابه من اتفاقه مع المالكي من دون أن ينعيه رسمياً، بمعنى من دون إبلاغ المعنيين الأساسيين (الراعي والوسطاء) بخروجه من هذا الاتفاق، في خطوة أثارت على مدى أيام حالاً من الضياع في صفوف دولة القانون، يفسرها بعض العالمين بشؤون البيت الشيعي وشجونه بأنها مجرد «تهويل من الطرفين» في محاولة لاستدراج المزيد من الوساطات... والمكاسب.
أجواء كهذه تقول أوساط المالكي إنها تبددت في خلال اجتماع ضم الطرفين مساء أول من أمس، جرى في خلاله التوافق على إعلان الاتفاق بينهما خلال الأيام المقبلة. وتضيف إنّ «المجلس الأعلى كان يبث معلومات كاذبة تفيد أن جماعة المالكي غير ملتزمين باتفاقهم مع الصدر لناحية إطلاق المعتقلين، وقد فعلت هذه المعلومات فعلها لدى الصدريين. أوضحنا لهم أن إطلاق المعتقلين وفق الآلية التي اتفقنا عليها يمضي قدماً، وأن شائعات المجلس الأعلى غير صحيحة وغير دقيقة. أبلغناهم أننا نواجه مشكلة المطلوبين بالحق الخاص. هناك جرائم حصلت وهناك دعاوى خاصة بشأنها. في حال، على سبيل المثال، حصول عملية قتل عن طريق الخطأ، يجري حل الحق الخاص وفق التقاليد العشائرية بفدية ومصالحة، ويبقى عندئذ الحق العام وهذا سهل، إمّا يكون المحكوم قد أمضى عقوبته أو نصدر له عفواً. أما إذا حصلت الجريمة عن عمد، فهناك ولي الدم الذي لم يتنازل عن حقه، وفي هذه الحالة لا نستطيع شيئاً. قلنا لهم حلّوا أنتم مشكلة ولي الدم والباقي علينا. للأمانة، قالوا إنهم يتبرأون، هم والسيد مقتدى، من مرتكبي الجرائم، بل يطالبون بإعدامهم حتى لو كانوا يدّعون انتسابهم إلى التيار الصدري».
اجتماع توضيحي لدولة القانون مع التيار الصدري يطيح الجلسة البرلمانية
وتضيف المصادر نفسها، التي تؤكد أن الصدريين لا يعلنون التزامهم بالاتفاق ولا الخروج منه، إن «أجواء الاجتماع كانت إيجابية، وجرى في خلاله الاتفاق على إطاحة الجلسة البرلمانية» التي كانت مقررة أمس في محاولة للفّ الطوق حول عنق المالكي، مشيرة إلى أن «اتفاقنا مع التيار نصّ على أن يأخذ وزارتين زيادة عن حصته (5 بدلاً من 3). لكن تعرف أن الوزارات لا تمتلكها دولة القانون لتوزعها، هناك أطراف أخرى لها كلمة فيها. المشكلة أن التيار عرف أنه بيضة القبّان ويسعى إلى ابتزاز الجميع للحصول على أكبر حصة ممكنة. وهناك مشكلة أخرى، وهي أن العراقية تسعى إلى كسب التيار عبر إغرائه بعدد أكبر من المقاعد. نحن قلنا لهم (التيار)، رشحوا أناساً جيدين وخذوا الوزارات كلها، أما إذا أتيتم بأناس موتورين، فلن تحصلوا ولا حتى على وزارة واحدة».
وأشارت هذه المصادر إلى أنّ «الكل يضغط باتجاه أن ينسحب المالكي من السباق. يعتقدون أن دولة القانون موحّدة بوجوده، لكنّ أصواتها ستتوزع في حال انسحابه، وكل طرف يعتقد أن حظوظه ستكبر في هذه الحالة»، لافتة على سبيل المزاح إلى أن «الاعتقاد بدأ يسود في طهران ودمشق أنّ الصدر يريد رئاسة الوزراء لنفسه. سألوه في دمشق من تريد فلم يجب. كذلك حصل مع طهران».
وختمت هذه المصادر بالقول إن «العلاقة الآن بين التيار الصدري والمجلس الأعلى في أسوأ حالاتها. لا يعني ذلك أنهم خضعوا، الحكاية حكاية مصالح لا رغبات وتمنيات. كما أن إبراهيم الجعفري مستاء جداً من الصدريين بعدما قال له أحد قادتهم: كنا مراهقين وبلغنا سن الرشد، لا تمارس علينا دور الأبوّة».

مناورة لم تكتمل بعد

وتقول مصادر من شركاء السر في مفاوضات تأليف الحكومة العراقية إنّ الصدر عاد من دمشق إلى طهران يوم الأربعاء الماضي «منقلباً على اتفاقه مع المالكي». وتضيف «سئل في طهران: هل لا تزال على كلمتك؟ اعتصم بالصمت ولم يعطِ جواباً»، مشيرة إلى أن «دولة القانون تبلغت من قنوات أنّ الصدر خرج من الاتفاق، وهي في حالة غضب شديد. تقول إنها أطلقت مئات المعتقلين وخفّفت الكثير من الأحكام، لكن خطوات كهذه تحتاج إلى وقت وإجراءات قضائية، كيف يفعل بنا الصدر ذلك».
حالة الغليان في «دولة القانون» تبدو مبرَّرة. كان الائتلاف قد عقد اجتماعاً حاسماً يوم السبت الماضي، بعد مناورة قاموا بها حيال المالكي. ظهر ذلك اليوم، أرسل «الائتلاف الموحد» أحمد الجلبي إلى المالكي. في هذا اللقاء، تفيد مصادر وثيقة الاطلاع، قال الجلبي لمضيفه إن «أحداً في الائتلاف الموحد لا يريدك. لنبقَ متحالفين لكن لنبحث عن بديل عنك لشغل رئاسة الوزراء». عندها أجاب زعيم دولة القانون إنّ «هناك اتفاقاً بيننا وبين التيار الصدري»، فرد الجلبي بأن «التيار يقول إنه لا وجود لأيّ اتفاق». كان موقف المالكي واضحاً حاسماً «أنا في حالة تحالف مع الائتلاف الموحد بكل مكوّناته. من يغادر هذا التحالف فهو الخائن».
مساء اليوم نفسه، عقد الائتلاف، بكل مكوّناته، اجتماعاً قرّر في خلاله الدخول في مفاوضات مع العراقية والأكراد، على مجموعة من الأسس «إن قبلوها، يمكن عندئذ المضي نحو اتفاق شامل».
مصادر على دراية تامة بكل ما جرى في هذا الاجتماع تقول إنّ «الأساس الأول هو أن يعلن إياد علاوي صراحةً انسحابه من المنافسة على رئاسة الحكومة لمصلحة الائتلاف الموحّد». أمّا الأساس الثاني، تضيف المصادر نفسها، فإن «المفاوضات تجري على قاعدة أن الائتلاف يمتلك 159 مقعداً (أي مجموع عدد مقاعده ومعها مقاعد دولة القانون) لا 70 مقعداً»، بمعنى أنهم سيطالبون بحصة «التحالف الوطني» كاملة «وبعدها يتوجّهون للمالكي ويعرضون عليه الانضمام إليهم، إن وافق يعطونه حصته كاملة، وإن رفض يتوزعونها في ما بينهم».
كذلك جرى الاتفاق على توجيه ضربة لنوري المالكي تخرجه من دائرة السلطة في تلك الفترة الانتقالية، أو بالحد الأدنى تنتزع منه صلاحياته، وذلك بتحويل حكومته إلى حكومة تصريف أعمال.

المكيدة

ومعروف أنّ المالكي، ومنذ صدور نتائج الانتخابات الأخيرة، رأى أنّ حكومته لا تزال حكومة كاملة الصلاحيات، مستنداً إلى رأي للمحكمة الاتحادية يعطيه حق التصرف بالموازنة المعتمدة بكل تفاصيلها، وحق إجراء تنقلات مهمّة بل حق إقالة الوزراء وما إلى ذلك.
ومن أجل تحويلها إلى حكومة تصريف أعمال، يستند «الائتلاف» إلى ثلاثة نصوص دستورية، يرى الأول أن الحكومة تصبح مستقيلة إذا فقدت نصف أعضائها زائداً واحداً، وينص الثاني على عدم جواز الجمع بين الوزارة والنيابة، فيما يقول الثالث إنّ رئيس البرلمان، في حالة الفراغ الدستوري، له الحق في تسمية رئيس لحكومة تصريف أعمال. من هنا جاءت خطة الائتلاف، كما عرضها أكثر من مصدر: في الجلسة التي كانت مقررة أمس، يُنتخَب رئيس مؤقت للبرلمان لولاية من ثلاثة إلى أربعة أشهر، جرى التوافق على أن يكون فؤاد معصوم (أو إياد السامرائي أو همام حمودي). بعد ذلك، يُدعى الوزراء الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة إلى أداء اليمين الدستورية. إن رفضوا، تسقط نيابتهم وتوزّع مقاعدهم على اللوائح بحسب نسبة الأصوات التي حقّقتها في الانتخابات. وبما أن معظم الوزراء النواب من دولة القانون، فهذا يعني أن المالكي سيفقد عدداً من المقاعد، وهذا ما لن يقبله. أمّا إن أدّوا اليمين الدستورية، فهذا سيفقد الحكومة نصابها وتصبح بحكم المستقيلة. هنا، يأتي دور الرئيس المؤقت للبرلمان الذي يكلف المالكي أو غيره بترؤس حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات إلى حين اتفاق الكتل على رزمة المناصب السيادية.
اجتماع التيار الصدري ودولة القانون مساء الاثنين أطاح جلسة يوم أمس، لكن بمخرج كان عبارة عن اجتماع رؤساء الكتل، عدا دولة القانون، في مكتب رئيس السن للبرلمان، فؤاد معصوم، حيث جرى الترحيب بإعلان الحكومة ودولة القانون أنّ الحكومة الحالية «أشبه بأن تكون حكومة تصريف أعمال».
واقعة لم ترضِ، على ما يبدو، القائمة العراقية، التي قدمت عريضة، وقّعها مئة نائب، تطالب بعقد جلسة برلمانية استثنائية الأحد المقبل «لكشف أسباب الأزمة الحالية، وجعل الحكومة لتصريف الأعمال، بعدما أصبحت ممارستها لصلاحياتها معطّلة للدستور ودور مجلس النواب التشريعي والرقابي».

... وأخيراً اعتراف

ومعروف أنّ اتفاق التيار الصدري مع دولة القانون بقي يخيم عليه الغموض منذ حصوله. اعترف به جميع المعنيّين به، ما عدا التيار الصدري الذي عمد طوال الوقت إلى إنكار وجوده، على الأقل علناً، وإن أقرّوا به تجنّبوا الحديث عن تفاصيله، وحصروه في اتفاق لإطلاق المعتقلين.
الائتلاف نحو مفاوضات مشروطة مع العراقية والأكراد مزدوجة الأهداف
مصادر قيادية من الدائرة الضيقة المحيطة بالسيد مقتدى كشفت، للمرة الأولى، تفاصيل ما جرى، من وجهة نظر التيار الصدري. تقول «عندما زار وفد المالكي سماحة السيد في طهران، قال له الصدر: الشروط عندي والضمانات عند الهيئة السياسية. فسأل الوفد: ما هي شروطك. أجاب: المعتقلون» وعددهم يقارب الـ1500، بينهم نحو 400 محكوم، أحكام 195 بينهم هي الإعدام. «ولمّا سأل الوفد عن الضمانات، حوّلهم إلى الهيئة السياسية التي اجتمع الوفد بها على حدة. طالبت الهيئة بحقوق أكلها المالكي. قيل للوفد إن التيار يريد حصة من المناصب الوزارية والتنفيذية تساوي المقاعد النيابية الـ 39 التي يتمتع بها التيار، إضافةً إلى 25 مقعداً من حصة المالكي»، على ما تضيف المصادر التي توضح «أنّ المعادلة كانت أنّ التيار تعهّد التصويت لمصلحة نوري المالكي رئيساً للحكومة إذا نفّذ خلال فترة عشرة أيام شرط الصدر، الذي أكّد أن لا حديث بيننا ما لم تُنفَّذ». وتتابع المصادر بالقول إنه «أُلّفت لجنة من الطرفين، ضمت قانونيّين ونواباً لإنهاء ملف المعتقلين، لكن المالكي عاد وقال إنه عاجز عن إطلاقهم، متذرّعاً بأسباب وإجراءات قضائية».
وترى المصادر نفسها أنّ «الإنجاز الأهم الذي حقّقه الصدر في هذا الاتفاق هو نسف المفاوضات، التي كانت تجري في ذلك الوقت بين المالكي وعلاوي». وتضيف «في تلك المفاوضات، أخرج المالكي التيار الصدري والمجلس الأعلى من المعادلة. وفيها أيضاً طرح على علاوي السؤال التالي: إن لم أشغل رئاسة الحكومة فماذا أتولّى؟ عندها جاء الجواب من واشنطن: رئاسة الجمهورية بصلاحيات عسكرية وفي ذلك إحراج لإيران، بل طعنة. أمّا المفاوضات الحالية التي يخوضها الائتلاف مع العراقية والأكراد، فتضمن لإيران حفظ ماء الوجه لكونها تضمن أن تبقى رئاسة الحكومة ضمن الائتلاف، وهي في الوقت نفسه لا تُخرج المالكي من المعادلة لكونها تبقي حصته محفوظة إن رغب في أخذها».
وفي تفسيرها لتمسك الإيرانيّين بالمالكي مرشحاً لرئاسة الحكومة، تؤكّد هذه المصادر أنّ «هذا الإصرار ليس لشخص المالكي، بل بالعكس، لقد سبّب لهم ذلك حرجاً مع السوريين الذين يكرهونه لما فعله بهم بعد تفجيرات بغداد الشهيرة. الإصرار الإيراني على المالكي هو نتيجة لرفضهم علاوي. يريدون شخصية شيعية قوية يمكن أن تقف في وجه علاوي، وليس في الساحة سوى المالكي يمكنه تأدية هذا الدور». وتقول إن «العراقية كلها ليست سوى نتاج للتقارب السوري السعودي. عندما استؤنفت قنوات الاتصال بينهما، جرى الاتفاق على تجزئة الملفات. قالوا وقتها: حسناً، نحن مختلفون في لبنان، لكن أين نتفق؟ لنتّفق في العراق. كانت هذه النواة التي تقاطعت مع مصالح تركية وإماراتية وأردنية ومصرية. السعوديون والإماراتيون قدّموا الأموال، والسوريون والأردنيون المعلومات الاستخباريّة والأتراك الجهد السياسي».
مصادر قريبة من دمشق ومن طهران تقول إنّ «السوريين يدركون علاقات علاوي بالسي آي إيه (وكالة الاستخبارات الأميركية) وبالسعوديين وغيرهم كثيرين. جاءهم وقال لهم: استفيدوا من علاقاتي، فاقتنعوا ووجدوا في ذلك مصلحة. الكلام نفسه نقله علاوي لطهران، لكن الإيرانيين لم يقتنعوا بذلك». وتضيف، في تأكيدها على أنّ علاوي «مجرد طربوش لكتلة لا يمتلك قرارها»، أنّ «صالح المطلق (22 مقعداً) وأسامة النجيفي (20 مقعداً) هواهما سوري، وطارق الهاشمي (14 مقعداً) هواه تركي، ورافع العيساوي (8 مقاعد). ماذا يبقى لعلاوي؟».


هرباً من طهران وقم

تؤكد المصادر القيادية في التيار الصدري ما نشرته «الأخبار» عن اللقاءات الدمشقية للسيد مقتدى، لكنها تضيف بعض التفاصيل الجديرة بالذكر. تقول «صحيح أنّ الصدر تلقّى دعوة لزيارة سوريا، وهي دعوة قديمة تتجدّد كل فترة. لكن السبب الأساس الذي دفع السيد لزيارة دمشق في هذا التوقيت هو الهروب من الضغط الإيراني، سواء ضغط السلطات أو ضغط المراجع. كما أن هذه الزيارة تحققت بعد انتهاء مهلة الأيام العشرة التي أعطاها الصدر لجماعة المالكي».
وتضيف هذه المصادر إن «الصدر لم يعطِ جواباً نافعاً لأيٍّ من الأطراف. لم يقل لعلاوي إنه سيؤيده لرئاسة الحكومة. أصلاً علاوي هو من قال له إنّني من يدك تلك إلى يدك تلك، ردّ عليه السيد، الذي التقاه محاملة للسوريين: سأكون مطالباً بحقوق كل من لم يحظَ برئاسة الحكومة. إن شغلت أنت هذا المنصب، فسأطالب بحق الآخرين وبينهم المالكي، وإن تولاه غيرك، فسأكون مطالباً بحقوقك».
وأكدت المصادر نفسها أن «المالكي لا يزال خياراً، لكنه الخيار الأخير»، في جملة فسرها مطّلعون بأنها تعني «خيارنا المالكي، لكن بعد استنفاده».