لا تملك المقبرة القديمة لتجمع المعشوق القريب من صور، الهيبة التي تملكها غيرها من المقابر. فهي تتوسط البيوت دون سياج، ودون شواهد تحدد هوية من دفن فيها. معظم القبور مكسورة، وتغطيها الحشائش وبعض القمامة، وكأنها أطلال قديمة دفنت مجهولين
سحر البشير
لا يشبه مدخل تجمع المعشوق مداخل التجمعات والمخيمات الأخرى. لا قنطرة تحمل عبارات لأبو عمار، ولا علم لفلسطين يلوح من البعيد. ما إن تتجاوز «حسينية طبريخا» و«جامع الإمام العسكري»، وعشرات البيوت التي تحمل أعلام حركة أمل، حتى يظهر من البعيد علم فلسطيني شاحب الألوان يقف خجولاً على سطح أحد البيوت. المعلم الأول الذي يدل الزائر على أنه دخل التجمع هو صورة «فقيد الشباب وسام أحمد الألومي» التي تختفي وراءها مقبرة المعشوق القديمة. يتابع جيران المقبرة حياتهم الطبيعية، شبان عاطلون من العمل يدخنون سجائرهم قرب حائط، وصاحب «موتيرات الكهرباء» يصلح علبة المولدات، ونسوة يتجمعن قرب بيت صديقتهن يتبادلن الأحاديث بانتظار عودة أبنائهن من المدرسة. لا يكترث الشبان الجالسون داخل مكتب تابع لأحد التنظيمات الفلسطينية مقابل المقبرة، للزائرين الذين يأخذون الصور للمقبرة من جميع جوانبها. يجد أحد الشبان الجالسين قرب الحائط تسلية يومه، يقترب من الذي يحمل الكاميرا، ويحاول النظر ساخراً إلى ما يجذبه لالتقاط صور «الأموات»، قبل أن يتطوع أخيراً لأن يكون «الدليل السياحي» داخل التجمع وبين القبور. هنا، دفن «الختيار» زوجته تحت شباك غرفة نومه لاكتظاظ المقبرة المجاورة لمنزله بالأموات. وبالقرب منها، دفن بعض جيرانها الذين لم يجدوا لهم مكاناً بين من سبقوهم إلى دار الحق.
يقول الحفيد إن جده دفن جدته بمحاذاة حائط المنزل حتى يقرأ لها الفاتحة كل يوم، من دون أن يتعذّب بالذهاب إلى المقبرة بعدما تغلب عليه المرض. يتعامل الحفيد مع «جدته» كأنها لا تزال على قيد الحياة، فيكلّمها ممازحاً: «ستي زبّطي حالك بدن باخدولك صورة الشباب».
أما ابن الحفيد، الذي يكاد يبلغ الثانية من عمره، فلا يحلو له اللعب إلا بين القبور التي تظللها أشجار حديقة المنزل. فيما لا تجد أم الطفل وعمته مشكلة في شرب القهوة بجوار القبور لمراقبة الصغير وهو يلعب. يخرج الأولاد بملابسهم الزرقاء من المدرسة، يمرون بالقرب من المقبرة القديمة في طريقهم إلى البيت. يصرخ أحدهم برفيقه: «شو مالك يا عمي، ليش واقف عالقبر!». يقع القبر على طرف المقبرة القديمة، لا يحمل اسم من دفن تحته، ولا شكل له كأنه صخرة إسمنتية. لا تمثّل المقبرة مصدر خوف لأطفال تجمع المعشوق كباقي الأطفال. يسلّمون صباحاً على أمواتها، ويلعبون ظهراً تحت ظل الأشجار التي نبتت بين القبور، وفي الليل، اعتادوا النوم ونوافذهم مفتوحة على الصخور الإسمنتية. ولدوا... بين القبور، فلمَ الخوف أصلاً؟
مقبرتان ولا مكان للدفن
تضم المقبرة القديمة مئات القبور، التي يعود بعضها لأهالي التجمع، والبعض الآخر لأهالي التجمعات والمخيمات الفلسطينية المنتشرة في منطقة صور. ويعود القليل منها للبنانيين من القرى المجاورة، الذين يدفعون أربعمئة ألف ليرة لبنانية مقابل القبر، على عكس العائلات الفلسطينية التي لا تدفع اية رسوم. وضع المقبرة مثّل أزمة للأهالي لسنوات طويلة. فكانوا مضطرين إلى دفن الأموات بعضهم فوق بعض، لضيق المساحة. بقي الناس على هذه الحال، إلى أن افتتحت المقبرة الجديدة التي لا تبعد سوى بضعة أمتار قليلة عن المقبرة القديمة. ورغم أن المقبرة الجديدة تقع خارج الحي السكني، إلا أن بعض قبورها يلاصق جدران بعض المنازل التي تقع على تخوم الحي السكني. ويقول بعض أهالي التجمع إن اكتظاظ المقبرة قد تراجع كثيراً بعد افتتاح المقبرة الجديدة، وبعدما أصبح لكل من مخيم برج الشمالي المجاور وتجمع القاسمية القريب، مقبرة خاصة. تختلف المقبرة الجديدة عن المقبرة القديمة بكونها أكثر تنظيماً. تتراصف القبور بجوار بعضها بعضاً، على عكس القبور القديمة التي تتناثر كيفما كان.

تلاصق قبور المقبرة الجديدة جدران بعض المنازل في المخيم

كما أن القبور الجديدة مبنية بمعظمها من الرخام، وبعضها مزنّر بسياج خاص. أما القبور القديمة فهي مبينة من الباطون، بعضها مطلي بالأبيض والأزرق، ومعظمها لا يحمل أسماءً ولا تواريخ. وعلى الرغم من أن المقبرة الجديدة تحوي قبوراً للبنانيين وللفلسطينيين، إلا أن إحدى العائلات التي تسكن بجوار المقبرة قررت دفن شهيديها، اللذين سقطا في حرب تموز، في حديقة المنزل. اشترت منظمة التحرير الفلسطينية منذ ثلاث سنوات، 5 دونمات من البستان المجاور للمقبرة الجديدة، لتوسيعها وبناء قاعة للتعازي. ويقول إياد أبو العينين، ممثل فتح في اللجنة الشعبية لتجمع المعشوق، إن المنظمة قد تبيع أرض البستان إذا تبين أنه ليس هناك من داعٍ لتوسيع المقبرة. ولم يشر أبو العينين إلى المعايير التي ستعتمدها المنظمة في تحديد حاجة التجمع إلى مساحة أكبر لبناء قبور جديدة. فيما يؤكد أن مشكلة المقبرة القديمة قد حُلت بعد تنظيف المقبرة من الحشائش والقمامة، فأصبح هناك مساحة أوسع لدفن المزيد. فيما يزال أهالي تجمع المعشوق يرون ضرورة وفاء المنظمة بوعودها لجهة توسيع المقبرة الجديدة التي ستمتلئ في غضون عامين أو أقل.


لا تعترف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» بالتجمعات الفلسطينية في المعشوق والشبريحا والقاسمية وجل البحر القريبة من مدينة صور وتجمع السكة القريب من مخيم عين الحلوة في صيدا (الامتداد غير الرسمي للمخيم)، كمخيمات رسمية. ويعود السبب إلى أن هذه التجمعات نشأت في الخمسينيات خارج الأراضي التي استأجرتها الأونروا لإنشاء المخيمات عامي 1948 و1949. ورغم أن سكان هذه التجمعات مسجلون كلاجئين لدى الأونروا والحكومة اللبنانية، إلا أنهم لا يتمتّعون بكل الخدمات التي تقدّمها الأونروا للاجئين في باقي المخيمات.