أظهر «أسطول الحرية» بعضاً من وجهه. عشرات المتضامنين من جنسيات مختلفة مع قطاع غزة. حماسةٌ وحرصٌ على مقاومة الظلم الإسرائيلي. إلا أنه خلف هذا الوجه، وجوه أخرى عملت شهوراً وسنوات، وكوّنت فريقاً اختار محاربة الظلم سلمياً، فكانت حركة «غزة الحرة» أحدها. وها هو «أسطول الحرية 2» يستعد للانطلاق
ربى أبو عمّو
«أسطول الحرية 2» في طريقه إلى غزة في 18 أيلول المقبل. هذا ليس مجرد إعلان، بل هو إصرار أناس يقبعون في جميع بقاع الأرض، على كسر حصار غزة. هم الذين تخطوا حدودهم المفتوحة ليفتحوا حدوداً تصرّ إسرائيل على إغلاقها عنوة. وقد قالها «أسطول الحرية 1»، الذي انطلق إلى غزة في أيار الماضي، وتعرض لمجزرة إسرائيلية، راح ضحيتها 9 أتراك: أسطولنا لن يكون النهاية.
هكذا، لم يكن «أسطول الحرية 1» وليد لحظة طيش. فالمشاركون لم يعودوا مراهقين. بل انتقلوا إلى مرحلة النضج، التي سمحت لهم بالاطلاع على ما يعانيه الفلسطينيون في غزة، وحجم الإجرام الذي يمارسه الاحتلال. المشاركون كانوا في الواجهة. أما في الكواليس، فمجموعة أخرى كان لها الدور الأبرز في انطلاقة الأسطول.
إحدى الجهات المنظمة هي حركة «غزة الحرة». الدخول إلى موقعها الإلكتروني (www.freegaza.org) يوصلك إلى غزة المحاصرة. تستقبلك مجموعة من التحقيقات عن مجزرة الأسطول. هدف الحركة، موقفها من الذي يحصل في القطاع، القرصنة الإسرائيلية، عدد السفن التي انطلقت لكسر الحصار. فـ«أسطول الحرية» لم يكن الأول، ولن يكون الأخير.
واللافت في الموقع هو صبغته العالمية: أوستراليا، بلجيكا، كندا، تشيلي، إنكلترا، دنمارك، فرنسا، ألمانيا، اليونان، الهند، ايرلندا، إيطاليا، الأردن، لبنان، ماليزيا، النروج، بولندا، سكوتلندا، إسبانيا، الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة. جميع هذه الدول كانت لها حصتها في هذه الحركة، من خلال أشخاص رفضوا الانصياع إلى حقيقة الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي التي تروجها حكوماتهم.
بدأت «غزة الحرة» في خريف عام 2006 على يد الناشط الأوسترالي مايكل شايك
نظمت حركة «غزة الحرة» منذ عام 2008 تسع مهمات بحرية إلى غزة. في 23 آب عام 2008، انطلقت أول سفينة تحمل على متنها 44 شخصاً من 17 دولة، وقد نجحت في الوصول إلى القطاع. وبعد شهرين، في 28 تشرين الأول من العام نفسه، وصلت سفينة ثانية ضمت 27 متضامناً من 12 دولة. وتتابعت الرحلات في 8 تشرين الثاني و8 و19 كانون الأول من العام نفسه، إلى أن بدأ عدوان الرصاص المصهور. فنظمت الحركة رحلة في 28 كانون الأول، ضمت النائبة في البرلمان القبرصي إيلينا ثياهاروس، والنائبة السابقة في الكونغرس الأميركي سينيا ميكيني. إلا أن السفينة تعرضت لاعتداء إسرائيلي. وأعقبت هذه السفينة أخرى في 12 كانون الثاني، ثم في 29 حزيران في عام 2009، وأيضاً وقف الإسرائيليون لها بالمرصاد. وتمثلت الرحلة الأخيرة في «أسطول الحرية».
فكرة إرسال السفن بغية كسر الحصار مثّلت نواة الحركة. ويقول أحد مؤسسي «غزة الحرة»، رمزي قيسيا، إن «غزة الحرة بدأت في خريف عام 2006 على يد الناشط الأوسترالي في مجال حقوق الإنسان، مايكل شايك». إلا أن نواة الفكرة تكونت في لبنان، خلال العدوان الإسرائيلي في صيف عام 2006. يشرح قائلاً: «أنشأت مجموعة من الناشطين اللبنانيين حركة مقاومة سلمية أطلقت على نفسها اسم حملة المقاومة المدنية. ضمت سماح إدريس، سامي هرمز، رانيا المصري، عبد الرحمن زهزه، وغيرهم. وانضم العديد من الناشطين الأجانب الذين رفضوا الحرب الإسرائيلية، فأرادوا الإسهام في إعادة الإعمار والتضامن مع جنوب لبنان بعد توقف القصف. ومن الأجانب، كنت أنا، هويدا عراف، آدم شابيرو، بول لارودي، وباترلي كواميه».
ويضيف قيسيا: «بعد توقف إطلاق النار، فرض الإسرائيليون حصاراً جوياً وبحرياً على لبنان. وأثناء هذه الفترة، سعت حملة المقاومة المدنية إلى تسيير سفينة إلى قبرص أو غزة لكسر الحصار البحري على لبنان. ورغم أننا لم نتمكن من إطلاقها، تمسكنا بهذه الفكرة وأصبحت أساساً لحركة غزة الحرة التي تأسست بعد عدة أشهر».
أما صاحب الفكرة الأساسي، مايكل شايك، فيقول بدوره: «خطرت لي فكرة محاولة الإسهام في رفع الظلم عن غزة من طريق السفن في عام 2003، حين كنت مسجوناً في إسرائيل وأنتظر ترحيلي لكوني المنسق الإعلامي لحركة التضامن الدولية». وتابع: «بعدها، صرت مقتنعاً بأن تحدي إسرائيل سيكون أمراً جيداً، وخصوصاً أنها ادعت الانسحاب من غزة في عام 2005، إلا أنها استمرت في السيطرة على حدود القطاع ومجاله الجوي ومياهه الإقليمية. وفي أواخر عام 2006، ناقشت مجموعة من الناشطين الذين طردوا من فلسطين أو لم يتمكنوا من العودة إليها، وكانوا أربعة نساء ورجلاً من كاليفورنيا وكندا، ما يمكن القيام به للمساعدة من الخارج. اقترحت أن نحاول كسر الحصار على غزة. وتأسست الحركة بعدما قام الناشطون المبعدون بالتواصل مع الجهات المهتمة للحصول على المال وشراء السفن وجميع الحاجيات».
كيف يفكر هؤلاء الأشخاص؟ ما الذي يربط رجلاً أوسترالي الجنسية، يقطن في قارة بعيدة، بالقضية الفلسطينية، وأبو فادي، الغزي العجوز؟ ما الذي دفعهم إلى اختيار غزة وفلسطين، من ضمن مناطق العالم العديدة التي تعيش معاناة يومية. الجواب بسيط. لا يلجأ شايك إلى فلسفة الأمور. فما يحدث في الأراضي الفلسطينية برأيه، هو استعمار يفترض أن يكون التاريخ قد طواه إلى الأبد. إلا أن التاريخ لم يكن صادقاً. خدع العالم وكان الفلسطينيون ضحيته. يقول شايك: «خلافاً لهاييتي، المعاناة في غزة ليست نتيجة كارثة طبيعية، بل نتيجة عمل حربي يمارس على سكان مدنيين عزل. وأعتقد أنه عندما تفشل حكومات العالم في التحرّك ضد الظلم، حينها يترك العمل للناس العاديين».
عمدت إلى ممارسة التصعيد السلمي على إسرائيل من خلال إرسال المزيد من السفن
ويضيف شايك: «صحيح أن انتهاكات حقوق الإنسان تحدث في أجزاء أخرى كثيرة من العالم، إلا أن اللافت في فلسطين هو الطبيعة الإسرائيلية الاستعمارية. على سبيل المثال، يتعرض المعارضون في إيران للقتل على أيدي الشرطة، لأنهم يحاولون جعل البلاد أكثر ديموقراطية، الأمر الذي يهدد النظام الحاكم. لكن حين تطرد العائلات المقدسية من بيوتها، أو حين يضطر الناس في غزة إلى شرب مياه ملوثة، فهذا ليس لارتكابهم أخطاءً بل لكونهم غير يهود في دولة يهودية. هذه هي طبيعة العنف الاستعماري. هذا ما جعل جنوب أفريقيا فريداً من نوعه في القرن 20، وهذا ما يجعل النضال من أجل حرية فلسطين اليوم فريداً من نوعه».
شايك يعبّر عن موقفه الشخصي، الذي دفعه إلى أن يكون إحدى نواة غزة الحرة. قبل «أسطول الحرية»، كان نحو عام قد مر على انطلاقة السفينة الأخيرة. ولأن «غزة الحرة» تعمل من خلال تكثيف الضغط المدني على إسرائيل، أصرت على الإعداد لمحاولة جديدة. فكان «أسطول الحرية». ويشرح قيسيا أنه «بعدما عرقل الجيش الإسرائيلي السفينة التي اتجهت إلى غزة في عام 2009، رأينا أنه يجب علينا ممارسة التصعيد السلمي من خلال إرسال المزيد من السفن والبضائع والناس، والطعن في الحصار الإسرائيلي غير القانوني على غزة. فكانت الشراكة مع IHH ، التي كانت المنظمة الرائدة في الأسطول».
وعن كيفية جمع المساعدات، تقول منسقة الحركة في قبرص، غريتا برلين: «نحتاج إلى دعم الجهات المانحة للحركة. وحالياً، يتبرع الآلاف من حول العالم للحركة، وهذا ما يمكننا من إرسال السفن. هؤلاء المانحون غاضبون من التصرفات الإسرائيلية مثلنا». أما في ما يتعلق بمعايير اختيار البرلمانيين الأوروبيين، فقالت: «نحن نعمل مع الحملة الأوروبية لكسر الحصار عن غزة. لديهم اتصالات مع مختلف البلدان الأوروبية. اخترنا أيضاً بعض المتضامنين الراغبين في المشاركة. على سبيل المثال، مايرييد ماكواير، النائبة الايرلندية السابقة والحائزة جائزة نوبل للسلام، وسينتيا ميكيني، شاركتا في أسطول الحرية».
من جهته، قال قيسيا: «راسلنا أصحاب الضمائر الحية في الحكومات في جميع أنحاء العالم. البرلمانيون الذين سافروا معنا هم الذين أجابوا عن هذا النداء».
وبعد مجزرة الأسطول، شرحت برلين قائلة: «مارس جميع شركائنا الضغط على حكوماتهم والمجتمع الدولي للتدخل لحماية الركاب الذين كانوا قد خطفوا واحتجزوا رهائن من إسرائيل. كان لدينا أيضاً فريق من المحامين في فلسطين، الذي عمل فور المجزرة على الادعاء على المسؤولين الإسرائيليين للمثول أمام القضاء الإسرائيلي».
ربما من الصعب التنبؤ بقدرة هذه الحركات على إحداث أي تغيير. حتى شايك نفسه يبدو غير واثق من إحداث خرق. يقول: «أنا لا أعرف. هي محاولة. قد لا تضع حداً للصراع. إلا أنه لا شك في أن الأسطول نجح في وضع الحصار المفروض على غزة على جدول أعمال الدول».


قوة العمل غير العنفي

انتهت مهمة «أسطول الحرية» بمجزرة إسرائيلية وترحيل الناشطين، وعدم تمكنهم من الوصول إلى غزة وتفريغ المساعدات الانسانية. أمرٌ أطلق العنان للتحليلات بشأن مدى نجاح هذا الأسطول في تحقيق أهدافه. وكان لمايكل شايك رأيه. قال إن «الهدف الإسرائيلي الأساسي من الحصار هو منع إيصال المساعدات إلى غزة، فيما يحتاج القطاع إلى كميات هائلة من مواد الإغاثة على غرار هاييتي. وأي مساعدات تحملها السفن المدنية لا يمكن أن تغطي إلا جزءاً يسير من احتياجاتها. وكان هدفنا الأساسي هو وضع إسرائيل في حالة الخسارة المزدوجة، إذ كان عليهم الاختيار بين السماح لنا بكسر الحصار، أو أن يكشف العالم العنف ضد سكان غزة». ويضيف شايك: «هذه هي قوة العمل غير العنفي؛ فهو يظهر العنف الهيكلي الذي غالباً ما يكون مخفياً عن الأنظار. فقبل أسابيع، لم تكن معظم دول العالم تعرف عن الحصار المفروض على غزة. وها هي إسرائيل تتعرض اليوم للضغوط».