strong>وائل عبد الفتاحمخبر سري في دكرنس (مدينة ريفية على دلتا النيل) يبدو أنه لم يسمع بقصة خالد سعيد، ولم تصله تعليمات بتغيير برنامج المعاملة اليومية مع «الجمهور»، فألقى سائق «التوك توك» من الطابق الثالث، عقاباً على رفض الأخير تقديم «توصيلة مجانية».
المخبر لم يتابع ما حدث لزميليه، بطلي قصة خالد سعيد، وهما القاتلان من وجهة نظر المجتمع الذي انتفض غضباً وتحول معه الضرب الوحشي للشاب في الشوارع إلى قضية رأي عام، بعدما أفلتت من مصير الدفاتر المجهزة سلفاً.
القاتلان أفلتا في الرواية «الأولى»، لكنهما في «الثانية حملا نصف الجريمة»، واتهما في قرار نيابة الاستئناف بالاعتقال بدون وجه حق أو استعمال قسوة.
مع المخبرين اتهم أداة ثالثة، مسؤول في أرشيف مديرية أمن الإسكندرية، استصدر مستندات مزورة لتسهم في صنع تاريخ إجرامي للضحية.
نصف جريمة، يعني اجتماعياً: نصف انتصار على مؤسسة التعذيب. النصف الآخر بقي خارج دائرة الاتهام، ولا سيما أن الدولة استخدمت كل سلطاتها من الاستخبارات العامة إلى مصلحة الطب الشرعي للدفاع عن صدقية جهاز الأمن.
المؤسسات قدمت شهاداتها لتثبت أولاً أن الموت جرى باسفكسيا الاختناق، وهو ما ذكره تقرير الطب الشرعي في المرتين، وثانياً أن القتيل ليس فوق مستوى الشبهات. لتكتمل النهاية الذكية للقصة بأن رواية الشرطة لم تكن كاذبة، لكنها غير دقيقة.
سائق «التوك توك» المقتول أصغر من خالد سعيد بعشر سنوات (عمره ١٨ سنة) ورفض الانصياع للعرف العمومي، فاتهم في المحاضر بالقيادة من دون رخصة، رغم أن «التوك توك» في مصر يسير بطريق سري، مثل المخبر الذي استخدم سلطته المفرطة، وألقى بالضحية، لتؤكد بأنّاتها الأخيرة أن مؤسسة التعذيب في الأمن المصري خارج السيطرة، بما في ذلك سيطرة قادتها، وأنها أصبحت عقيدة ومنهجاً، وأسلوب عمل، من الصعب مغادرته أو التخلي عنه.
خالد سعيد تحول إلى رمز ضحايا التعذيب المنهجي، لكنه ليس أولهم ولا آخرهم. هذا ما تقوله قصة سائق التوك توك، ويقوله إصرار الدولة على أنها «حالات فردية» ورغبتها في حماية مؤسسة التعذيب، بالامتناع عن إصدار قوانين رادعة للجريمة، أو بحماية قادة التعذيب، وتدعيمهم في سلم الوظائف العليا. وكما توجد محميات سياسية للفساد، هناك محميات لمجرمي التعذيب، يبعدون إليها لكي تمر أعيرة الغضب من التعذيب ولا تصيب أحداً.
وبهذه الإدارة الذكية لقصة خالد سعيد، قدمت أدوات الجريمة فقط، (المخبران والمزور)، بينما اختفى من يحرك الأدوات. اختفت الإرادة المحركة للتعذيب (تنفيذياً وسياسياً)، واختفت المسؤولية الأخلاقية لوزارة الداخلية في استخدام عناصرها المفرط للقوة.
الإفراط هنا علامة قهر، كما حدث أمس أيضاً عندما غضب المحامون في مدينة طنطا بعد إعلان المحكمة تأجيل الإفراج عن المتهمين في قضية تبادل الصفعات بين رئيس النيابة والمحامي. الشرطة أوقفت الغضب باستعمال قوة أدت إلى إصابة عدد من المحامين بعد استعمال الهراوات.
استعراضات القوة تثير نشوة النظام، وتجعله آمناً في مرقده بالقصور والمنتجعات السكنية، ولهذا فإن المخبر في دكرنس خارج حسابات اللحظة الراهنة، اتسق مع وظيفته كقاتل تحت الطلب، وقام بمهمة عادية جداً: القتل. وهنا كانت الاستفادة من المزاج العام المحتقن ضد التعذيب لتتناقل المواقع الإلكترونية خبر القتل بحزن وتحدٍّ لإنقاذ رواية سائق «التوك توك» بعد نجاح عملية إعادة خالد سعيد إلى الحياة وسماع صوته، ذلك الصوت الذي تضافرت معه آلاف الأصوات (مواقعه على الفايس بوك تجاوزت ربع مليون صوت)، ليهتف ضد التعذيب، ويعلن أن السلطة المفرطة ستواجه مجتمعاً غاضباً.
شباب مجموعات خالد سعيد، محتمين بالكهوف الإلكترونية، يتحركون بأسلوب كرة الثلج التي تكبر على منحدر، بينما تقف العصا الغليظة في قلب الميدان تحطم كرات الثلج كلما تكبر، لكنها تترك في كل مرة كرات صغيرة سرعات ما تصبح عصية على التهشيم.