توفي «نخلة عمان» ظريف الطول، الذي تغنّت به شاعرة فلسطين مي صايغ، عن 73 عاماً، قضى معظمها مناضلاً وطنياً لم تغب فلسطين أبداً عن ناظريه
محمد سعيد
محمد داوود عودة «أبو داوود»، المولود في سلوان في القدس المحتلة، احتضنه تراب دمشق أول من أمس، بعدما استعصى «فشله الكلوي» على المعالجة. دمشق كانت أكثر العواصم العربية التي احتضنته ولم يكن يوازيها في ذلك سوى بيروت، التي انتقل إليها بعد «هزيمة المقاومة» في عمان، حيث اعتقله ضباط استخباراتها في عام 1973، بعد كشف أحد أعضاء فريقه خطته للقيام بعمليات في عمّان تهدف إلى السيطرة على مجلس الوزراء الأردني والسفارة الأميركية بهدف الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين في سجون الأردن. ولم ينقذ أبو داوود من تنفيذ حكم الإعدام، الذي صدر في حقه، سوى الملك حسين في ذلك الوقت، ضمن صفقة سياسية لم يُكشف عنها بعد.
وخلال اعتقاله في عمان، الذي دام بضعة أشهر، أنشدته مي الصايغ قصيدتها نخلة عمان التي تقول فيها: «يا ظريف الطول يا طول النخل يا رايح عمان تلم الأهل».
وبعد إطلاق سراحه انتقل أبو داوود إلى بيروت، وعُيِّن قائداً عسكرياً لمنطقة بيروت الغربية، وخاض حربها الأهلية ومعركة الدفاع عن المقاومة والحركة الوطنية.
أبو داوود، الذي انضم إلى حركة فتح في منتصف الستينيات من القرن الماضي وترك عمله في وزارة العدل في الكويت، كان كغيره من شباب فلسطين منتمياً إلى حزب البعث، لكنه فضّل الالتحاق بـ«فتح» إيماناً منه بأن نهج الكفاح المسلح هو الأسلوب الوحيد لحل التناقض التناحري بين الشعب الفلسطيني والأمة العربية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
اختار أبو داوود لدى تفرغه في «فتح» العمل في صفوف جهازها الأمني، ليكون من أوائل الذين تلقّوا دورات التدريب الأمني والاستخباري لدى جهاز الاستخبارات المصري في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
عمل أبو داوود عن كثب مع صلاح خلف «أبو إياد»، الذي كان مسؤولاً عن جهاز «الرصد الثوري»، الذي كان بمثابة جهاز أمن «فتح». وعشية «أيلول الأسود» في عام 1970، كان أحد قادة الميليشيا في عمان، والتي تصدّت إلى جانب الفدائيين لمؤامرة التصفية التي تعرّضت لها المقاومة في الأردن وانتهت بخروج من بقي منهم من الأردن في تموز 1971.
أبرز حدث التصق اسم أبو داوود به هو عملية ميونخ خلال دورة الألعاب الأولمبية في أيلول 1972، والتي خطط لها بالتعاون مع أبو إياد وأشرف على تنفيذها باقتدار، لتخرج إحدى الصحف الجزائرية بالفرنسية بعنوان «الفلسطينيون حصلوا على الكأس» في دورة لا فريق رياضي لهم فيها.
كل من عرف أبو داوود يؤكد أنه لم يكن يقبل المساومة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، حتى عندما اعتقد أن أوسلو ستعيده إلى سلوان، وهو ما حدث بالفعل تحت شروط إسرائيلية، وعندما قررت إسرائيل طرده غيابياً بقي في دمشق.
اختلف أبو داوود مع قيادة «فتح»، ومع ياسر عرفات تحديداً، بطرحها برنامج النقاط العشر في عام 1974، وانضم إلى تكتل المعارضين في المجلس الثوري، الذين كان أبرزهم صبري البنا (أبو نضال) وناجي علوش (أبو إبراهيم)، والذين خاضوا صراعاً مع من سمّوهم «خط التسوية» الذي لجأ إلى حسم الصراع معهم بالعنف المسلح والاغتيال.
وقاد الثلاثة ما سمّي «فتح: المجلس الثوري»، لكن الاتفاق بين الرفاق الثلاثة انفصمت عراه، وخرج أبو داوود أولاً ليعود إلى حضن أبو إياد، وليصبح هدفاً لأبي نضال، وبعدها خرج أبو إبراهيم ليؤسس «الحركة الشعبية العربية» ويلتحق به العديد من كوادر «فتح: المجلس الثوري».
بعد خلافه مع أبو نضال تعرّض أبو داوود لمحاولة اغتيال في العاصمة البولندية، وارسو، عام 1981، وأُصيب بسبع رصاصات في أماكن مختلفة من جسده، إلا أن هذه الرصاصات لم تمنعه من الركض وراء الشخص الذي حاول اغتياله في ردهات الفندق. حتى إن كثيراً من الحضور كانوا ينظرون إلى المشهد كأنه فيلم سينمائي، وظل أبو داوود ينزف طيلة ساعتين حتى وصلت سيارة الإسعاف، وبقيت آثار رصاصات القاتل في فكه، الذي لحقه بعض التشوّه، لكنها لم تشوّه التزامه الوطني.
مع تفاقم حدة الأزمة داخل «فتح»، بعد الخروج من بيروت، بين خط «اختيار المنافي» وخط التمسك بالقتال ورفض الذهاب إلى المنافي في تونس والجزائر والسودان واليمن، فضّل أبو داوود أن يكون وسيطاً، لكنه لم ينجح، لأن حجم الخلاف كان أكبر ممّا كان يعتقد. فالخلاف كان استراتيجياً على امتداد الوطن العربي كله، الذي انضم قادة دوله إلى ما يسمّى «خيار السلام الاستراتيجي» الذي أدّى حتى الآن إلى حكم ذاتي هزيل.