غزة | سار محمود (اسم مستعار) في أرض زراعية خالية شرق قطاع غزة. أخذنا الشاب ابن الـ18 عاماً إلى السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، لإعادة تمثيل محاولته في التسلل أمامنا. لمح الآليات العسكرية الاسرائيلية القريبة جدا. لم يخف أو يتوقف، بل أكمل سيره، مقترباً أكثر من الحدود.
تصرف محمود كمن اعتاد الأمر. دفعنا خوفنا على سلامته بعد رؤية هذا «الجنون» إلى سؤاله: «ألا تعلم أنك قد تقتل وتعود محمولاً إلى أهلك؟ ما الذي يغريك «هناك» (خلف السياج) إلى هذا الحد؟». أجاب مبتسماً: «أموت؟ على أساس في حياة في غزة؟ تركت المدرسة وأنا عمري 10 سنين، وبشتغل في الشارع ومش عارف ادرس، ولا عارف اسافر. كل ما يصحّلي بقول لازم احاول اطلع من غزة بأي طريقة».
من يعرف الظروف الصعبة التي يعيشها أبناء القطاع من حصار اقتصادي وإغلاق للمعابر، وانقسام سياسي انعكس على حياة المواطنين، بالإضافة إلى ثلاث حروب خلال ست سنوات خلفت مآسي لا تعد ولا تحصى، يتفهم أن هذه الأسباب قد تكون كافية لأي كان للتفكير بالهرب إلى «إسرائيل»، القائمة على بلاده المحتلة.
أكمل محمود شرح الأسباب التي دفعته إلى هذه الخطوة المجنونة: «كان أبوي يعمل في اسرائيل وكنا نعيش احسن عيشة كل شي كان متوفر، لكن الان اخوتي تركوا المدارس، وابي لا يعمل، وانا بشتغل في الشارع، بطلع بين 15 شيكلا و20 شيكلا (نحو 5 دولارات) باليوم! ووالدي دايماً بقلّي والله الشغل في اسرائيل بدخّل دهب».

ثلثا الهاربين
لقضايا أمنية وجنائية، فيما الثلث الآخر بحثاً عن عمل

بالطبع، ليس من السهل تغيير قناعات الشاب الذي حاول اجتياز الحدود أكثر من أربع مرات، وفي محاولته الأخيرة أصيب وشقيقه بقدميهما بعدما أطلق جنود العدو النار عليهما. لم تكن جروحه الضريبة الوحيدة التي دفعها، فقد اعتقل وسجن أربعه أشهر، وخرج من السجن اخيراً.
«هل ستعيد المحاولة مرة أخرى»؟، أجاب: «الاستسلام؟ هذا قصدك؟ انا ما رح استسلم ابدا رح أضل أحاول لما تزبط معي وأدخل إسرائيل وأشتغل وأعيش أهلي. بعدين هاي بلادنا أنا رايح إشتغل في بلادنا، غزة خنقتني بطلت قادر أعيش فيها».

بين القبول والرفض

يعيش الشارع الغزي حالة من الانقسام بين متقبل لفكرة التسلل إلى إسرائيل باعتبارها بلادهم المحتلة، ولهم الحق في زيارتها والعمل فيها (هذه الفئة هي ممن كانت عائلاتهم تعمل في إسرائيل قبيل اندلاع الانتفاضة الثانية واليوم هم متعطلون من العمل)، وبين رافض للفكرة جملة وتفصيلاً.
لدى سؤال أحد شبان غزة، الذي رفض الكشف عن اسمه، عن تقبله لفكرة التسلل إلى إسرائيل، أجاب: «في ظل كل الظروف الي بنمر فيها، شباب قاعدين عاطلين لا شغله ولا مشغله، وكل الي بتسللوا ناس بدها تاكل وتعيش فليش لا، هنموت من الجوع! إذا حكوماتنا مش مطلعه علينا في غزة ايش نعمل نموت؟».
أما الشاب فؤاد عكيلة فكان رأيه مختلفاً وقال: «التسلل والعمل في إسرائيل خيانة لا تغتفر، ويجب على المقاومة والأجهزة الأمنية في غزة ردع هذه الظاهرة تماما حتى لا تصبح موضة! كل شاب عاطل بتسلل لعند العدو».

أملاً في حياة أفضل

انعكس الوضع الاقتصادي السيئ في غزة على آلاف الخريجين الجامعيين الذين يواجهون «البطالة». تشاهد في شوارع غزة مئات من حملة الشهادات العلمية العالية على عربات يبيعون الذرة أو البوظة أو بعض المشروبات. بالنسبة لهؤلاء، فإنهم لا يرون أي مستقبل لهم في القطاع، فبرغم الطاقات والمجالات العلمية والإبداعية التي يملكونها لكنهم يعانون غياب أي فرصة لإثبات أنفسهم وإخراج طاقاتهم، ما دفع بعضهم إلى التفكير بالهجرة، أو التسلل إلى إسرائيل.
هذه العوامل دفعتهم إلى السعي إلى الحصول على عقد عمل في الخارج، أو تأشيرة مرور إلى إحدى الدول الأجنبية والهجرة إليها، لكن هذه الفئة تعرف واقعها جيداً، فمنفذهم الوحيد إلى العالم معبر رفح البري، وهو مغلق، ولا يفتح إلا لأيام قليلة وهذا يعني أنه لا يسمح لسفر آلاف المسجلين، فضلاً عن القيود المفروضة على سفر الفئات الشابة.
أما منفذهم الآخر، فهو معبر «بيت حانون ــ إيريز»، الذي لا يقدم تصاريح السفر إلا لفئات معنية وبقيود صارمة من الجانب الإسرائيلي. لذلك، عند أول فرصة سفر لن يفكر هؤلاء في العودة إلى القطاع.
اللافت، أن «١٠٧٦ شخصاً، بينهم ٧٦ شاباً سافروا من غزة إلى الضفة المحتلة (عبر إيريز) ولم يعودوا»، يقول محمد المقادمة، الذي يعمل في الشؤون المدنية المختصة باستلام تصاريح السفر وإرسالها إلى الارتباط الإسرائيلي للموافقة عليها.

عداد التسلل في ارتفاع

برغم ذلك، يرتفع عدد الشبان الذين يغامرون في التسلل إلى إسرائيل ليلاً بصورة ملحوظة، حتى بعد محاولة الأجهزة الأمنية، التابعة لحركة «حماس» ضبط الحدود. وقد سجل في عام ٢٠١٤ أكثر من مئتي محاولة تسلل. أما مع بداية ٢٠١٥، فسجلت أكثر من ١٠٠ محاولة في مدة قصيرة، وقد فشلت جميع محاولات التسلل فإما ألقي القبض على المتسللين من قبل المقاومة أو العدو كما يؤكد المتحدث باسم وزارة الداخلية في غزة، إياد البزم.
وفي آخر إحصاء للتحقيقات الخاصة في الأجهزة الأمنية، فإن «٣٥٪ يتسللون لأسباب أمنية وهرباً من قبضة المقاومة باعتبارهم عملاء لإسرائيل، و٣٥٪ يهربون من قضايا جنائية مختلفة، و٣٠٪ بسبب سوء الوضع الاقتصادي».