مهين | الخارج من مدينة حمص نحو ريفها الشرقي يحتاج إلى دقائق لتتكيّف عيناه مع المشهد الجديد. كيلومترات قليلة تفصل ضجيج الأحياء الداخلية عن طريق تحجب مئات الأشجار المزروعة على جانبيها صحراء شاسعة.في هذا الريف خزان سوريا الغازيّ، ووسطه تجلس تدمر خجولة من التاريخ. أعمدة المدينة الأثرية تجد بكّائين في أنحاء سوريا والجوار... في «المناطق الآمنة» تحديداً، لكن على طول هذا الخطّ قرى تتحصّن لمواجهة «داعش»، باحثةً عن أساليب جديدة للحياة... عن مازوت وكهرباء.

قبل وصولنا إلى الفرقلس المؤدية إلى تدمر، نتّجه جنوباً حيث تستقبلنا الفحيلة بآلاف الأشجار من الزيتون. اللون الأخضر يَفشل مجدداً في حجب بُنّيّ الصحراء. «الشرود» في الجبال و«الخطر خلفها» يقطعه مطار الشعيرات، «أحد أهم المطارات العسكرية العاملة» في سوريا. هدير طائرات «الميغ» يكسر رتابة الأوتوسراد السريع بلونيه الوحيدين. بضعة بيوت تتناثر على جانبي الطريق، فلا تقلّص سرعة السائق سوى حواجز الجيش السوري. نصل إلى بلدة صدد لنشتمّ الحياة مجدداً. صور الشهداء المنتشرة بكثافة تذكّر بآلام تشرين الأول عام 2013.

هدف الجيش تأمين خطوط النفط والغاز وحفط طريق حمص دمشق الدولي

هنا، على بعد 70 كيلومتراً من مدينة حمص، دخل المسلحون فجر ٢١ تشرين الأول 2013 ليحتلوا البلدة مدة أسبوع. أهالي صدد عرفوا حينها النزوح والويلات. زهاء 2500 عائلة هربت بما في أيديها إلى حمص ودمشق والقرى المجاورة.
45 شهيداً وعدد من المفقودين «دُفعوا في وجه الارهاب». ظهراً، الحرارة المرتفعة تمنع الأهالي من الحركة. المحال مقفلة، لكن اللافتات والسيارات أمام المنازل دليل على الحياة المستمرة. سريعاً تُصبح «عاصمة السريان» خلفنا. «الحفر ترحّب بكم» بمنحوتة حجرية على مدخل القرية. الترحاب جاء يتيماً. صخرة محفورة بعناية وسط صحراء، فلا بيوت أوّل الضيعة: البادية مجدداً.
مئات الأمتار تُدخلنا «القلب». 1000 مدني ما زالوا يأملون بغد أفضل في «ماضٍ» قريب أسكن 3000 شخص في بلدة الحَفر. يرزح هؤلاء تحت ضغط هائل، معنوي بالحد الأدنى، إذ تشكلّ بلدتهم خطّاً أساسياً لمنع المسلحين من قطع طريق حمص ــ دمشق، وبالتالي الوصول إلى القلمون الغربي.
خلف أحد المراكز العسكرية، ترتفع السواتر الترابية وسط الصحراء. الهدف هو منع التسلل من المحسّة ووادي حسان في القلمون الشرقي. خلف الجنود المتمترسين تظهر قارة بجبالها في القلمون الغربي.
يوم دخول صدد لم تعانِ الحَفر، إذ استخدمها المسلحون كممرّ. دخلوا مبنى البلدية والمستوصف «كإثبات وجود»، فـ«فصدد أساسية للاستيلاء على المدينة الصناعية في حسياء»، يروي أحد قادة المجموعات الرديفة للجيش.
من الحَفر، اتجهنا شرقاً نحو مهين. في البلدة الشهيرة لا صوت يعلو فوق صوت المصالحة. المسلحون المحليون داخل البلدة التي يقطنها حوالى 15 ألف مواطن، لا يعاندون التواصل مع السلطات الرسمية.
العين على مهين منذ سقوط القريتين البعيدة حوالى 15 كلم بيد تنظيم «داعش» بداية شهر آب الماضي. «ما أبعد الخطر عن البلدة هو حمل أهاليها السلاح لدى اقتراب الخطر الداعشي»، يروي ضابط في الجيش السوري. كيلومترات قليلة تفصل مهين عن قرية حوّارين الصغيرة... المسلحون المحليون أيضاً هناك.
بعد تحرير صدد عام 2013 كانت مستودعات مهين على موعد مع تشكيلات مسلحة من مختلف التنظيمات. عشرات «الهنغارات» دخلتها «جبهة النصرة» و»جيش الاسلام» وغيرهما. استولوا على ما استطاعوا، وأمّن الجيش ما استطاع. اليوم المستودعات فارغة، يحفظها ــ والنقاط الجبلية المحيطة ــ الجيش السوري.
الجبال تلك أصبحت على موعد مع أسْوَد من نوع آخر. الخطر الذي كان مصدره القلمون الغربي (الملاصق للحدود اللبنانية) يطل برأسه من «الشرقي». الموت الزاحف من الجبال نحو صدد ومهين كان «قاعدياً» منذ سنتين، أمّا اليوم فـ«داعش» يعمل على الاهداف نفسها، لكن من الشرق.

التأثير على تدمر

بعد سقوط بلدة القريتين، وُضع تحرير زنوبيا تدمر من خاطفها على الرفّ. «أولاد أبي بكر البغدادي» تمدّدوا على عادتهم. يحاول الجيش من نقاطه رصد تسلل عناصر «داعش» نحو مهين وحوارين والحدث الخالية من السكان. هنا لا تجدي الأسلحة الخفيفة. «نتعامل مع المسلحين بالمدفعية الثقيلة والرشاشات المتوسطة أو يتدخّل سلاح الجو»، يروي ضابط سوري.
محاولات التسلل شبه يومية، ويتداخل في المنطقة الخطر «الداعشي» الداهم مع المسلحين المحليين ومحاولات التهدئة. أمس قطعوا رأسين في القريتين بعد ساعات من «عقد الذمة» لمسيحيي البلدة. الأخبار عن القريتين تصل من جيرانهم في القرى المحيطة. خفتت أصوات المعارك في تدمر بعد وصول الجيش والقوى الرديفة إلى منطقة مثلت تدمر والبيارات الغربية ونقاط أخرى تبعد كيلومترات عن المدينة، كذلك ما زال حقل جزل النفطي يشهد معارك طاحنة تتغيّر فيه موازين القوى بسرعة هائلة.
القريتين قلبت الموازين، وأصبح هدف الجيش تثبيت حدود «داعش» وتأمين خطوط النفط والغاز، إضافة إلى حفظ طريق حمص ــ دمشق.
استطاع الجيش وحلفاؤه حصر حدود «الدولة الاسلامية» بين «القلمونين»، لكن ذلك شتّت جهد استعادة تدمر. هنا على حدود «الجزية»، يقدّم الأهالي بالحسنى من دمائهم وعرقهم ومالهم لدفع من يفرضها بالقوة عليهم.