من جديد يخرج شبح العالم الافتراضي، حيث لا قيود أو حدود أو رقابة أو تنظيم، إلى الضوء. هذه المرة من خلال «بلاك بيري»، الجهاز الذكي الذي لا يزيد وزنه على 150 غراماً، وله وجهتا استخدام، الغوص في عالم الإنترنت وفوائد الهاتف المحمول، وذلك بعدما اجتاحت إنذارات توقّف خدماته الدول الخليجية والهند
شهيرة سلّوم
بفضل التطور التكنولوجي، حُمّلت خصائص العالم الافتراضي لجهاز صغير فائق الذكاء، مع ما ينطوي عليه ذلك من كسر للقيود، حيث يمكن أن تتحرك كل الأطراف بحريّة مطلقة. لكنها حرية يمكن أن تكون سلاحاً ذا حدّين، إذ إنها لا تميّز بين مستخدميها ونيّاتهم.
وقد أثبتت التجارب الأخيرة، الحملة الرئاسية لباراك أوباما، والأحداث التي تلت الانتخابات الرئاسية في إيران، وما يجري في مصر اليوم استعداداً لمعركة ما بعد حسني مبارك، وفي غيرها من الدول، الشأن المهم الذي تحتلّه هذه الشبكة في المعارك السياسية الداخلية؛ فكيف الحال إن نُقلت قدرات هذه الشبكة إلى جهاز محمول؟
الإمارات والهواجس
الإمارات ليست الأولى التي تحظر بعض خدمات «بلاك بيري» ولن تكون الأخيرة. أمّا الحجج، فهي متشابهة في معظم الحالات، وتدور حول مخاطر الأمن الوطني والاجتماعي. لكن الواقع أن القضية لها أبعاد سياسية، بعدما أصبحت المدوّنات والمواقع الاجتماعية سلاحاً بيد المعارضة السياسية.
لقد قررت الهيئة المسؤولة عن تنظيم الاتصالات في الإمارات، حيث عدد مستخدمي هواتف «بلاك بيري» يناهز نصف مليون شخص، تعليق خدمات «مسنجر» والبريد والتصفّح الإلكتروني الخاص بـ «بلاك بيري»، إضافةً إلى خدمة تجوال «رومينغ» للخدمات الثلاث، اعتباراً من 11 تشرين الأول المقبل، حتى يجري التوصّل إلى حل يتوافق مع الإطار التشريعي لقطاع الاتصالات في الدولة. وبرّرت أن هدف قرارها هو حماية المستهلكين والقوانين المحلية.
وأشارت إلى أن أجهزة «بلاك بيري» تسمح للأفراد بارتكاب تجاوزات بعيداً عن أيّ مساءلة قانونية، ما يترتب عليه عواقب خطيرة على الأمن الاجتماعي والقضائي والوطني.
وطالبت الإمارات شركة «ريسيرتش ان موشن» («أر آي أم» أو ريم) الكندية المشغّلة لأجهزة «بلاك بيري»، عقب الانتقادات الأميركية لخطوتها هذه، بـ«التزام التنظيمات نفسها، وانتهاج نفس أسس الإشراف القضائي والتنظيمي التي تمنحها للحكومة الأميركية والحكومات الأخرى». إذ ظهر من خلال طرح القضية أنّ هذه الحكومات تحصل على ميزات الدخول إلى بيانات الشركة، على عكس الدول الأخرى، ومن ضمنها الخليجية.
الهواجس تستند إلى «مخاطر» هاتف «بلاك بيري» على الخصوصية الشخصية، فالشركة التي تعمل على تشغيله قادرة على تسجيل كل المكالمات والرسائل وتحديد أوقاتها، بعيداً عن الرقابة والسيطرة الحكومية. و«بلاك بيري» هو الجهاز الوحيد الذي يجري من خلاله تصدير وتخزين وإدارة البيانات والمعلومات المستخدمة مباشرة من جانب منظمة تجارية أجنبية واقعة خارج الدولة، وبالتالي خارج نطاق ولايتها القضائية والتنظيمية.
وتوفر الشركة الأمّ الخدمة، فيما تقوم موزّعات موجودة في كندا وبريطانيا بنقل البيانات، أي إنها خارج بلد المستخدم، وهو ما يطرح مشكلة مراقبتها إذا تطلّبت الدواعي الأمنية ذلك، كما حصل في تفجيرات مومباي بالهند، حيث استخدم المنفّذون «بلاك بيري».
وجدته الاستخبارات الفرنسية وسيلة هامة لنسخ وإرسال أسرار الشركات
إضافةً إلى ذلك، فإنّ شركات الاتصالات الداخلية الوسيطة لا تستطيع أن توفر سوى خدمات مشفّرة لجمع البيانات، يصعب التعامل معها، ثم توجيهها إلى خدمات الشركة الأم، التي تقوم بتخزين المعلومات، دون أن يحق لأحد الاطّلاع عليها.
ولكن هذه المخاطر التي تتمسك بها سلطات الإمارات لتبرير الحظر، غير كافية. إذ يقول خبراء إنّ «بلاك بيري» ليس الجهاز أو البرنامج الوحيد الذي يحتفظ ببيانات العملاء، كما أن الغالبية العظمى من المواقع التي تقدّم خدمات البريد الإلكتروني والدردشة والمواقع الاجتماعية تحتفظ بمعلومات مستخدميها.
في المقابل، ترى المنظمات الحقوقية أنّ الدول العربية تحاول حظر الوسائل التقنية للسيطرة على الإعلام وشبكة الإنترنت، بعدما شعرت بانفلات الرقابة من قبضتها بفضل الخدمات التي يقدّمها «بلاك بيري».
وقد وضعت «مراسلون بلا حدود» الإمارات على لائحة الدول المصنفة «قيد المراقبة» في تقريرها «أعداء الإنترنت» الذي نشرته في آذار2010. وقالت إن النظام وضع خطة شاملة لفلترة الإنترنت، ومن بين المواقع المحجوبة تلك التي تعالج وضع حقوق الإنسان والسجون والعائلة المالكة وحرية التعبير.
وتحدثت عن أنّ «بلاك بيري يخضع للمراقبة في الإمارات منذ كانون الأول 2009. وفي تموز العام الماضي حاولت السلطات تركيب برامج تجسس على الهواتف الذكية، لكنها عدلت عن هذا المشروع إثر تعبئة نظّمها المستخدمون المعارضون له».
وكانت بعض المدوّنات والمواقع الاجتماعية قد نشرت بعض الأنباء عن صدور دعوات لتنظيم مسيرات سلمية وحملات مقاطعة عبر خدمة «بلاك بيري مسنجر»، كانت أبرزها حملة احتجاج ودعوة لمقاطعة محطات الوقود بعد قرار رسمي برفع أسعار المحروقات الشهر الماضي.
وقالت منظمات حقوقية إن السلطات شنّت حملة اعتقالات نتيجة لذلك، ولا يزال لديها معتقل حتى الآن.

بقعة الزيت تتمدد

عموماً، فإن دول مجلس التعاون الخليجي تفرض رقابة على الشبكة العنكبوتية، عبر برامج تحجب مواقع معينة ذات علاقة بالمعتقدات الدينية والإباحية، وبعض المواقع السياسية.
وفي نيسان الماضي، حظرت البحرين خدمة «الأخبار الطارئة» التي تنقل أخباراً يومية من أهم ستّ صحف في البلاد وتوزعها على نحو 11 ألف مستخدم.
كذلك حذّرت من استخدام برنامج «مسنجر بلاك بيري» في نشر أخبار محلية. وذهبت أبعد من ذلك، إذ اتّخذت إجراءات قانونية ضدّ من لا يمتثل، واستدعت أفراداً وجهات استخدمت مسنجر «بلاك بيري» لمثل هذه الأنشطة غير المرخص لها.
وفي الكويت، تجري مفاوضات بين الشركات المشغّلة لخدمات «بلاك بيري» ووزارة الداخلية لإيقاف بعض خدمات «بلاك بيري». وأبلغت الشركة الأمّ «ريم» وزارة الاتصالات في الكويت موافقتها المبدئية على حجب الدخول إلى المواقع الإباحية عبر أجهزة هواتفها النقالة.
وأرسلت شركة «مواصلات» (إحدى الشركات الثلاث المشغّلة للخدمة) كشفاً يضم 3000 موقع إباحي طلبت حجب الدخول إليها، فأبدت «ريم» موافقة مبدئية، وطلبت من الوزارة إمهالها حتى نهاية العام لتطبيق الحجب.
وأكدت مصادر كويتية أن خدمة «بلاك بيري» في الكويت مستمرة ولن تتوقف، مشيرة إلى أنها تعمل مع شركات الاتصالات المحلية والشركة المصنّعة على وضع ضوابط قانونية تضمن سلامة الأمن الوطني من جهة، وحقوق المواطنين والمقيمين من جهة ثانية في استخدام خدمات الجهاز.
وفي السعودية، حيث يوجد أكثر من 700 ألف مشترك، جرت خطوة مشابهة للإمارات، وإن لم تكن بحجمها. وأرسلت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات مذكرة إلى شركات «الاتصالات» السعودية لإيقاف خدمات المسنجر لـ «بلاك بيري»، ومنحتها مهلة حتى اليوم (الجمعة) كي تتواصل مع الشركة الأم لمعالجة المخاوف الأمنية التي أبدتها السلطات السعودية.
وعُقد اجتماع بين ممثلي الشركات الثلاث (الاتصالات السعودية، موبايلي وزين)، التي توزع خدمة «بلاك بيري»، وممثل «ريم» في الشرق الأوسط. ورغم الحديث عن أجواء إيجابية، فإنّه يبدو أنها فشلت، والحظر سيبدأ اليوم.
أما في قطر، حيث توزع شركتا «فودافون» و«كيوتل» الخدمة، فلا يبدو أنه توجد نيّات لوقف خدمات «بلاك بيري». وقالت «فودافون» إن خدمات الجهاز لا تمثّل أيّ خطر أمني، وإن مستوى أمن البيانات الذي توفره الشركة الأم جيد.
وتتحدث مصادر مسؤولة في هذه الدولة الخليجية أنه لا يمكن مقارنة الوضع في قطر بما هو عليه في الإمارات والسعودية، لأن قوانين الاتصالات في هذين البلدين تتضمن منعاً لمحتويات معينة، فيما القانون القطري لا ينظم مسألة المحتوى. وتعمل «فودافون» حالياً على الاتفاق مع الشركة الأم على توفير حجب للمواقع التي لا تتفق مع خصوصيات المجتمع القطري وتقاليده.

قلق عالمي

بعيداً عن دول الخليج، ومع بروز ظاهرة تجسّس الشركات العالمية بعضها على بعض قبل سنوات، وجدت الاستخبارات الفرنسية أنّ «بلاك بيري» يعدّ وسيلة فعالة لنسخ وإرسال أخبار وأسرار المؤسسات من جانب الموظفين المتواطئين، كما أنّ معلوماته تمر عبر خوادم إلكترونية «سيرفرز»، تشرف عليها الشركة الصانعة والأجهزة الأمنية المرتبطة بها. على ضوء ذلك، قررت الأمانة العامة للدفاع الوطني في فرنسا حظر استخدام «بلاك بيري» داخل القصر الجمهوري والوزارات الحكومية، بحسب صحيفة «لوموند»، التي ذكرت أن المستفيد الأول من هذا النشاط التجسسي الحكومي كان الوكالة الأميركية للأمن الوطني.وكُشفت حالات كثيرة كانت تُنقَل فيها معلومات وبيانات حكومية حساسة عبر «بلاك بيري» إلى جهات حكومية في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا.
وعندما صدر القرار الحكومي الرسمي في فرنسا بمنع استخدام «بلاك بيري» قبل نحو أربع سنوات، عبّر الكثير من الموظفين عن احتجاجهم على القرار، وعدّوه هجوماً من الأجهزة البيروقراطية الحكومية على عصر التكنولوجيات المتقدمة.
وتحدثت تقارير أنّ شركة «موتورولا» الأميركية قالت إنها تلقّت شكوى بشأن أنّ شركة «ريم» تتجسس على خمسة من كبار خبرائها عبر استخدامهم للجهاز.
وفي الهند، هدّدت الحكومة بتعليق نشاطات «بلاك بيري» في أكبر سوق للهواتف النقالة بعد الصين، إذا لم تتمكن من مراقبة البريد الإلكتروني والرسائل النصية القصيرة. وهي تطلب، كما السعودية وحكومات أخرى، أن تتيح لها الشركة الوصول إلى نظام التشفير الصارم الخاص بها لأسباب أمنية.

مميزات «بلاك بيري»

يتميز جهاز «بلاك بيري» الفائق الذكاء بأنه يخوّل مستخدميه الوصول لاسلكياً إلى البريد الإلكتروني وبيانات الشركات والرسائل الفورية والوسائط المتعددة (SMS & MMS)، وهو منظم للمعلومات والإنترنت. ويمكن استخدام تطبيقات out office بعد تحميل بعض التطبيقات الإضافية. فضلاً عن مميزات أجهزة المحمول العادي، كإمكان التقاط الصور بالكاميرا المدمجة، ويحتوي على خرائط للمدن، وهو منظّم مواعيد، ويمكن إضافة ذاكرة خارجية إليه والاتصال بواسطة bluetooth ووصله بالـ ups، وغيرها من التطبيقات الأخرى. وبالنسبة إلى الشركة المشغّلة، فهي «ريسيرتش ان موشن» (ريم) الكندية، وتستحوذ على 21 في المئة من السوق العالمي، لتقديم خدمة «بلاك بيري». وقد ذكر الموقع الإلكتروني لصحيفة «الاقتصادية»، أول من أمس، أن أسهم الشركة تراجعت 4 في المئة بسبب المخاوف الناجمة عن حظره، وخصوصاً في الدول الخليجية والهند.


لبنان يقوّم المخاوف

امتدت المخاوف الأمنية من أجهزة «بلاك بيري» إلى لبنان، إذ أعلن رئيس الهيئة المنظمة للاتصالات، عماد حب الله (الصورة)، أمس، أن لبنان سيعمل على تقويم المخاوف الأمنية المرتبطة باستخدام خدماته في البلاد، عقب التوقيفات التي شملت موظفين في قطاع الاتصالات بتهمة التجسس لمصلحة الدولة العبرية. وأضاف المسؤول أن الهيئة ستبدأ محادثات بشأن مخاوفها مع شركة «أر آي أم» المصنعة للهاتف الذكي، مشيراً إلى أن «المسألة تتعلق بقدرة السلطات على الوصول إلى البيانات بما يتلاءم مع تطبيق القانون». كذلك أكد حب الله أنه لا علاقة لهذا الإجراء بقرار الإمارات والسعودية تعليق بعض خدمات «بلاك بيري»، موضحاً أن «هذا الأمر مرده ازدياد المخاوف الأمنية داخل شبكة الاتصالات». لكن حب الله لم يوضح إن كانت الهيئة ستتخذ أي قرار في ما يتعلق باستخدام «بلاك بيري» في البلاد.
(رويترز)