اختلطت الأوراق مجدداً في العراق. أطاح التصلّب الصدري نوري المالكي الذي رفع الإيرانيون يدهم عنه، بعدما «ارتاحوا بانتقال الضغط إلى الساحة اللبنانية». واقع أقرّت به «دولة القانون» التي لا تزال تستبعد الاتفاق مع «العراقية»، رغم تجدّد الضغوط الأميركية، وتسوّق في الوقت نفسه لمجموعة من المرشحين، لا يبدو أن أياً منهم مقبول في نظرها غير... إبراهيم الجعفري
إيلي شلهوب
طوت الأطراف العراقية إحدى صفحات مفاوضات تأليف الحكومة بما يضع حداً لآمال نوري المالكي في التجديد له لولاية ثانية، ويفتح البازار مجدداً على جولة جديدة، يعتقد البعض أنها لن تسفر عن شيء لاستعصاء الحل الداخلي ولارتباط الملف العراقي بغيره من الملفات الإقليمية، بما يجعل الحل رزمة واحدة على مستوى المنطقة، فيما يؤكّد معنيّون أن إشارات انفراط الكتل البرلمانية الكبرى ستظهر إلى العلن خلال اليومين المقبلين، مع ما يعنيه ذلك من تبدلات ستطال الخريطة السياسية العراقية.
الكلمة الأخيرة في ما يتعلق بالمالكي كانت، كما هي منذ اليوم الأول، لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي تبرّأ من كل التزام في هذا الشأن «من دون أي تبرير»، على ما أفادت مصادر من شركاء السر في المفاوضات العراقية. «موقف كان حاسماً وصارماً لم تنفع معه ضغوط المعنيين من المسؤولين الإيرانيين ولا حتى ضغوط بعض المراجع في قم، من أمثال السيدين كاظم الحائري ومحمود الهاشمي»، على ما تفيد المصادر نفسها، التي توضح أنه «حتى المسؤولون الإيرانيون الممسكون بهذا الملف، يبدو أنهم سلّموا أمام تصلّب مقتدى الصدر. يقولون: لا نعرف ما قصته. لا يريد أن يتكلم. يرفض المالكي، لكنه لا يقول ماذا يريد ومن يريد».
وكان وفد من «دولة القانون» قد توجه إلى طهران، منتصف الأسبوع الماضي، على أثر التقارب الذي حصل عشية الجلسة البرلمانية التي أُلغيت، لكنه فوجئ «بحائط مسدود». يومان من المفاوضات الماراتونية عاد من بعدها إلى بغداد بخفّي حنين.
أوساط المالكي تؤكد أن الأمور بلغت خواتيمها مع الصدر، مشيرة إلى أن «المالكي قالها علناً أن لا مشكلة شخصية عنده في ما يتعلق برئاسة الوزراء. يقول إن المسألة مسألة برنامج سياسي، ليتفقوا على واحد، ولا مشكلة لديه في مَن يتولى المنصب».
بذلك تكون الأمور قد رست على «ائتلاف وطني» نجح في مواجهة الضغوط كلها، وخصوصاً «ضغوط الإيرانيين»، الذين يحمّلهم الائتلاف مسؤولية إبرام الاتفاق بين جماعة المالكي والتيار الصدري بقوة الحديد والنار. وهو، أي الائتلاف، يضع المعنيين أمام خيار من اثنين: إما شخصية من دولة القانون غير نوري المالكي، أو تفعيل المفاوضات مع «العراقية» والأكراد.
في الخيار الأول، كان «الائتلاف الموحَّد» واضحاً في أنه لم ينسحب من «التحالف الوطني» الذي يجمعه مع «دولة القانون». وهذه نقطة حساسة لها علاقة بالمراجع ووحدة الصف الشيعي الذي يحرص «الائتلاف» على ألّا يضع نفسه في خانة المتهم بتشتيته. وهنا يطرح بعض الوسطاء من «سعاة الخير» اسم علي الأديب (أبو بلال)، نائب الأمين العام لحزب الدعوة، رغم إدراكهم صعوبة تسميته، ليس لأنه محسوباً على إيران فقط، بل لأنه يحمل الجنسية الإيرانية أيضاً. غير أن الجهات نفسها تحاول منذ نحو خمسة أيام، على ما تفيد المصادر نفسها، تسويق أن «لا مشكلة في ذلك. قيادات السنّة تقبل به، وحتى الأميركيون، ومعهم إبراهيم الجعفري وحزب الفضيلة. لكنّ المشكلة في الصدريين والمجلس الأعلى الذين لا يقبلون بأي مرشح من حزب الدعوة».
لكنّ علي الأديب ينفي أن يكون يسعى لهذا المنصب أو أن يكون مرشحاً له. كذلك الأمر بالنسبة إلى حيدر العبادي، الذي تداولت اسمه بعض الصحف هو وطارق نجم. «كل هذا كلام غير دقيق»، تقول المصادر القريبة من المالكي، مشيرة إلى أن «خيارنا بعد أبو إسراء هو إبراهيم الجعفري، لكنّ الآخرين لن يقبلوا به».
انتقلت الأزمة من العراق إلى لبنان، فلم يعد الإيرانيون يشعرون بأنهم مضغوطون
مصادر عليمة بشؤون حزب الدعوة وشجونه تقول إن «المالكي لا يمكن أن يسلّم لأي شخصية أخرى من حزب الدعوة. لن يعطي لأحد الفرصة ليصبح أقوى منه. الشخصية الوحيدة التي يمكن أن يتنازل لها هي إبراهيم الجعفري لأسباب أوّلها أن الجعفري كان رئيسه في الحزب، ومهما علا شأن المالكي يبقى الجعفري متقدماً عليه. ثانيها أن الجعفري سبق المالكي في شغل رئاسة الوزراء، بل إن الأخير خلفه فيها وهو بالتالي يعدّ الجعفري الأحق في تولّيها. وثالثها أن الجعفري يبقى من الشخصيات التاريخية في حزب الدعوة مهما حصل، وتولّيه رئاسة الحكومة يعني أن هذا المنصب لم يخرج من صفوف حزب الدعوة».
أما الخيار الثاني، فالحائل دونه لا يزال تمسّك إياد علّاوي برئاسة الوزراء، التي يرى أن فرصه للفوز بها قد ارتفعت مع خروج المالكي من السباق. ومعروف أن «الائتلاف الموحد» لا يمكن أن يرضى برئيس وزراء من خارج صفوفه، وهو طبعاً أحد شروطه لمفاوضة «العراقية» والأكراد.

عقدة الأمن: نخشى انقلاباً

ومع ذلك، فإن مصادر نجفية عليمة بشؤون البيت الشيعي وشجونه تؤكد أن «الوقت لا يزال مبكراً لاستبعاد المالكي»، مشيرة إلى «ضغوط أميركية كبيرة لجمع المالكي وإياد علاوي، والهدف إقصاء التيار الصدري وربما المجلس الأعلى». وتقول هذه المصادر إن «الصيغة الوحيدة المعقولة لتحالف كهذا هو في تنازل علاوي عن رئاسة الوزراء للمالكي»، مشيرة إلى أن «الولايات المتحدة التي تستعد لمغادرة العراق وخروجه من تحت الفصل السابع، يبدو أنها لا تريد سلطة يقودها معممون خشية تحول الحكم إلى شيء شبيه بالنموذج الإيراني. هي لا شك تفضل تسليم العراق لسلطة مدنية علمانية».
أوساط المالكي ترى أن خطوة كهذه من الصعب أن تنجح، مشيرة إلى أنه خيار مطروح منذ أشهر ولم يصل إلى نتيجة. توضح أن «المشكلة الرئيسية مع القائمة العراقية هي الأمن. يقولون لنا خذوا رئاسة الحكومة، لكننا نريد الوزارات الأمنية كلها. هذا أمر لا يمكن أن نقبل به. نشعر بأن الطبخة كلها تهيئ لشيء ما. انقلاب أو شيء على شاكلته. هذا العائق الوحيد بيننا والباقي تفاصيل».
وتضيف المصادر نفسها أن لـ«العراقية كما هو معروف امتدادات بعثية وإسلامية وعلاقات مع تنظيم القاعدة. لدينا شكوك. المشكلة ليست في الأسماء. رافع العيساوي على سبيل المثال لا أحد يخاف منه. كذلك الأمر بالنسبة إلى أسامة النجيفي وصالح المطلك.
علي الأديب وطارق نجم وحيدر العبادي ينفون ترشّحهم لرئاسة الحكومة
الخوف كل الخوف من عناصر الحماية الخاصة بهم. من محيطهم»، مشيرة إلى أن «المشكلة في العراق مشكلة طائفية، بغض النظر عن كل الشعارات التي تُرفع. يقولون نحن لسنا سُنة بل وطنيون. طيب، كلنا وطنيون، أين يمكن صرف ذلك؟ إعطاؤهم الوزارات الأمنية معادلة ترجعنا إلى القرن الأول». وتتابع: «لم تكن العراقية يوماً جدية في طرح علاوي لرئاسة الحكومة. لطالما كان ذلك المطية التي يريدون من خلالها الوصول إلى الأمن». وتختم هذه المصادر بالقول: «حتى رئاسة الحكومة هي منصب أمني. أليس رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة؟ لا يمكن أن نسلم له برئاسة الوزراء. هذا موقف نتفق عليه نحن والائتلاف الموحد».
أحد الخبثاء من المنخرطين في الملف العراقي يقول متهكماً إن «الأطراف العراقية كلها تقول إنها لن تتنازل قيد أنملة إلا في اللحظة الأخيرة. تحاجج بأن التجارب الماضية علّمتها أن التنازل في وقت أبكر يكون مجانياً. المشكلة في أنهم عاجزون عن تحديد موعد هذه اللحظة».

الرؤية من طهران

مصادر قريبة من أروقة القرار في طهران تقدم قراءة مختلفة. تقول إن «الظروف التي أملت على الإيرانيين ممارسة الضغط بقوة على الأطراف العراقية قد زالت». تضيف أن «الإيرانيين ارتاحوا الآن. كان الضغط على مدى الأشهر الماضي، في الصراع بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وبين الجمهورية الإسلامية، يتخذ من العراق ساحة له. الآن انتقلت هذه الساحة إلى مكان آخر، إلى لبنان، ما عاد الإيرانيون يشعرون بأنهم مضغوطون».
وتابعت المصادر نفسها قائلة إن «الإيرانيين يتفهمون الصدر. معروف أنه لا يتحمل المالكي؛ لأن الأخير خانه. هم يحترمون الصدر ويثقون به أكثر من المالكي. في مرحلة إدارة الخروج الأميركي من العراق، الصدر أكثر إفادة لهم من المالكي»، مشيرة إلى أن «العراق ليس أولوية إيرانية الآن. تعرف أنهم سبق ولزموه للسوريين». وختمت بالقول، رداً على ضغط الوفد الأميركي الذي زار بغداد نهاية الأسبوع الماضي باتجاه حكومة تجمع علاوي والمالكي، إن «الإيراني لن يقبل أن يؤلف الأميركي حكومة منفردة في العراق. يقبل به كشريك، وأي شيء غير ذك يعني قلب الطاولة». وتختم المصادر نفسها بالقول إن «أسهم الجعفري ترتفع مجدداً».


زندقة سياسية

مصادر من شركاء السر في مفاوضات تأليف الحكومة العراقية تؤكد أن «دوائر معينة عرضت بجدية ترشيح علي الأديب لرئاسة الحكومة العراقية»، واصفة نفيه أن يكون مرشحاً بأنه يأتي من باب «الزندقة السياسية، أو بالحد الأدنى محاولة لإظهار نفسه أو تعويمها وإن من باب النفي».
وتضيف المصادر نفسها أن «طارق نجم شخصية محترمة ومقبولة ولها علاقات جيدة مع الجميع، في إيران والعراق، لكن التيار الصدري لا يمكن أن يقبل به»، مشددة على أن «حيدر العبادي لا يمكن أن يمر إلا على جثث الصدريين الذين يرون أنه الشخص الذي حرّض عليهم وسبّب ذبحهم».
وتؤكد المصادر نفسها أن «حزب الدعوة، إن كان هو من يطرح هذه الأسماء، فهو يعرف أن الأديب هو من يمتلك الفرص الأكبر»، مشيرة إلى أن «اسمه بُحث مع الائتلاف الموحد وكان الجواب: ليطرحوه، ولا نسير به».