strong>وائل عبد الفتاحالإنبا بيشوي، المرشّح الأول لخلافة البابا شنودة، تحوّل الى ماكينة تصريحات تستفزّ المسلمين في مصر، وتشعل فتيلاً مشتعلاً أصلاً بسبب تصريحات أخرى عن أسلحة في الكنيسة. حرب تصريحات، تشحن وتجيّش الطوائف في فتنة «الغلابة» ضد «الغلابة»، بينما صانع الاستبداد يستمتع بخلوده

السحر القاتل للطائفيّة



إنها الحرب إذاً. شاب مسيحي قضى نصف عمره في مصر، قبل أن يصل إلى باريس في أول التسعينيات، بالضبط مع الرصاصة الأولى في حرب الخليج (الكويت ـــــ صدام حسين). لا يخفي مرارته، هو الذي سافر بسبب إحباطه من بلد قالت له واسطته في كلية الشرطة: «سأتوسط لك... لكن أتمنى ألا يحدث تعارض مع كوتة المسيحيين».
هو الآن ملك من ملوك «الكريب» في باريس، شعر بمرارة وقتها، لكنها مرارة لا تقارن بما يسمعه عن مصر، ويراه عندما يسافر في إجازات يطمئن فيها على أمه.
«ماذا حدث» سؤاله، هو الذي لم ينل ما تمنى عندما سافر في التسعينيات. يتحسر على مصر التي لم تكن جنة مثالية في العلاقة بين المسلمين والأقباط، لكنها انتقلت الى درجة داكنة في اللون.
انتقال لا يخصّ صدمة الرومانسيين بحنينها الى «زمن جميل»، لكنه شعور بفرق الألوان من دون وعي بتأثير الزمن على ألوان العلاقة في المجتمع.
لماذا أصبحت الهوية الدينية حاضرة بقوة هذه الأيام؟ هل لأن هناك خطراً على الإسلام؟ هل لأن هناك خطراً على المسيحية؟
لم تكن هذه أسئلة «ملك الكريب» بالضبط، لكنها تلخيص مبسط لهواجسه الباحثة عن اللون الداكن الذي يراه مخيماً فوق مصر.
لماذا أصبحت الطائفة أهم، وأقوى، والتعامل بمنطق الجماعات الصغيرة هو السائد؟ الاستبداد في مصر يوحّد الأديان، ينشر اليأس ويزيد أعداد المستضعفين في البلاد... وهذا سر النزعة العنيفة باتجاه الطائفة أو العائلة أو كل جماعة صغيرة.
الدين هنا ليس أكثر من لافتة تتجمع عندها عصبية، تتوهّم حرباً دينية، لتغطي عجزها عن الحرب الأساسية ضد الاستبداد والفساد.
الكنيسة في مصر ليست عدوة المسلمين. أصبحت مع طول الاستخدام السياسي، مؤسسة سياسية تلعب بالسياسة لتحقيق سلطة أوسع على المسيحيين، سلطة سياسية ومالية، وتلعب بها السلطة الكبيرة لتسيطر على المسيحيين.
لعبة مزدوجة تجعل البابا أباً روحيّاً، وأمير طائفة تتفاوض باسم «شعب»، في دولة تعيش بعقلين، أحدهما يخص قروناً وسطى إسلامية، تنزع إليها عواطف الحكام ورجال الدين، الذين يبحثون فيها عن متعة الحكم المتعالي عن المحاسبة.
متعة يريدها المغرمون بمزاج القرون الوسطى، من دون صداع الفتنة الطائفية، يريدون إذعاناً وتواطؤاً، لا صراعاً يكشف المتعة السرية.
الكنيسة تفهم وتلتقط إشارة الرغبات، وتتأهب دائماً للعب الواضح. وهي لا تخوض حرباً ضد الإسلام، لكنها تخوض حرباً بالمسيحيين لمصلحة موقعها في السلطة.
الإسلام ليس في خطر، «الإسلاموفوبيا» لها قرينها الذي يحول المسلمين الى الخوف المفرط على موقعهم الاجتماعي، رغم أنهم مثل المسيحيين يشعرون بالضعف في مواجهة سلطة غاشمة، جبروتها مفرط، وبدلاً من البحث عن الخصم الحقيقي، من السهل تصنيع عدو. وبدلاً من الصراع حول وضع قواعد ديموقراطية تضمن الاحترام للجميع، يبحث المصري عن ميزة، أو ريشة توضع على رأسه ليهرب من مصير الضحايا.
مناخ يعلي الطائفة ويغوي كل من يجد في نفسه ميول زعامة سهلة.
زعامة طائفة أكثر سهولة من زعامة سياسية تتصادم مع السلطة. الزعامة الطائفية لها وجاهتها الأخلاقية أيضاً، فأنت مدافع عن أعداء الدين، وهؤلاء لا يمكن تحديدهم بدقة، إنهم حسب الأهواء، لأن العقيدة في القلب أساساً.
وهكذا، فإن الحزازات الصغيرة، التي هرب «ملك الكريب» من مرارتها، تحولت الى قاعدة متينة يركب عليها كل طلاب الزعامة في الطائفة.
رجل دين عادي مثل الإنبا بيشوي يترك موقعه الكهنوتي ويتحدث كزعيم سياسي عن ضيافة المسيحيين للمسلمين في مصر، ثم يفجر قنبلته بالحديث عن آيات القرآن التي تكفّر المسيحيين، ويتساءل عن وجود الآية من عدمه، لتمرّ فكرته في إطار كلام عن تحريف القرآن.
تصريحات تغلي بسببها الدماء في العروق، وتتوقد عواطف الدفاع عن العقيدة، فتخرج التظاهرات، وتتفعل ماكينة القضايا، وماكينات أخرى. اعتذارات مبطنة، وتصريحات وبيانات، وشحنات متطايرة هنا وهناك.
لماذا ترك الإنبا موقعه في الكنيسة؟ ولماذا ترك رجل قانون مثل الدكتور محمد سليم العوا موقعه في الدفاع عن الحقوق وتحدث (أمام قناة الجزيرة) كمحقق يملك الأدلة والبراهين على وجود أسلحة في الكنيسة. واعتمد على خبر طائر في صحيفة يومية عن إلقاء القبض على ابن رجل دين مسيحي للشك في وجود أسلحة بسفينة تشحن بضاعة له.
جرى تكذيب الخبر (البضاعة عبارة عن مفرقعات أطفال للاستخدام في العيد الصغير)، لكن الدكتور لم يلتفت للتكذيب، وأصر على معلوماته. وجمهور التقط التصريحات وتعامل معها على أنها حقيقة وكوّن يقيناً بأن الكنيسة تجهّز حرباً ضد المسلمين.
حرب؟ أي حرب؟ ولماذا؟ وبأيّ هدف؟ لا مكان للعقل أمام غواية الدفاع عن الطائفة، غواية سهلة... سهلة جداً. تصنع شعبية، لكنها تشعل الحرائق بعيداً عن صانع الاستبداد والمستمتع بجنته الخالدة.
هل هناك من يسمع؟ هل هناك من يقرأ تاريخ الطوائف في أي بلد في العالم، من أميركا الى لبنان، ومن الأندلس الى العراق؟
ماذا فعلت الطوائف بكل بلد لمع فيه سحر الدفاع عن الطائفة؟ للطائفة سحرها القاتل.

حرب على الضيافةحين تطل الفتن برأسها لا نفرّق بين اعتدال وتطرّف، فعندما تفلت الأمور من عقالها تذوب الفوارق بين الجزءين لتصبح الاصطفافات واضحة، تماماً كما يحصل حالياً: المسيحيون في مواجهة المسلمين
الأزهر غير جبهة علماء الازهر. الأول مؤسسة دينية، دورها تعليمي، لكنها مع الفوضى أصبحت موقعاً محتملاً لسلطة دينية افتراضية. شيخ الأزهر منصب مهم، يختاره الرئيس بعناية، ويؤدّي دوراً في ضبط الإيقاع الديني، يدخل المعارك للدفاع عن موقع مصر الإسلامي في مواجهة خصوم من نوعية:
1- المنافس السعودي على زعامة السنة في ما يعرف بحرب الوهابية والإسلام المصري.
2- الشيعة عندما يدخلون على خط المنافسة السياسية كما حدث بعد قيام ثورة الخميني حين توقفت محاولات تقريب المذاهب الشهيرة في 1979.
3- الجماعات المسلحة، والمتطرفة، حين تتحدى استقرار الدولة (لا المجتمع طبعاً)، وتهدد شرعيتها الدينية عند جمهورها المحافظ، المنتظر لوجهين من الحاكم (سياسي وديني). هكذا كان الفراعنة، آلهة وحكاماً، وملوك المسلمين حكاماً تعتمد شرعيتهم على النسب الى سلالات مهمة في الدعوة الإسلامية.
أما جبهة علماء الأزهر فهي مجموعة علماء منشقّين عن الخط «المعتدل» أو الأميل إلى مزاج الدولة. ظهر الانشقاق في لحظات ساخنة، لم يرق فيها اعتدال المؤسسة لعلماء أرادوا نزول ملعب المزايدة على التعصب والتطرف في قضايا اجتماعية وثقافية. الجبهة هي جمعية اجتماعية ليس لديها مشروعية سياسية، ولا حضور في المجتمع.
أخيراً خرجت الجبهة من الشقوق. عثرت على فريسة، بل فرائس في كل مكان، في لحظة فوضى، وأنانية تشبه أنانية المجاعات حيث يبحث كل فرد عن جماعته الأصغر من الدولة، تعطّل فيها القيم والقوانين، ويباح فيها أكل المحرّمات.
الدولة مرتبكة، لا تريد حسم مدنيّتها، ولا تفعيل قاعدة المواطنة. وهذه هي لحظة أعضاء الجبهة: يشبهون الكائنات الغريبة في أفلام الخيال العلمي، قادمون من زمن قديم، لكنهم يستخدمون وسائل حديثة. وجوههم تبدو عليها طيبة، وسذاجة، لكنها في الوقت نفسه تحمل شراً وغلّاً لا يمكن مقاومته.
هذه الكائنات الغريبة أصدرت أخيراً بياناً على موقعها في الإنترنت، يطالب المسلمين بمقاطعة المسيحيين. البيان مضحك، لكنه قاتل. كاتب البيان يعيش زمن الفتوحات الإسلامية، وهو زمن انتهى سياسياً منذ قرون، ولا تعني نهايته انتهاء الدين، لأن الفتوحات فعل سياسي، يرتبط باللحظة التاريخية، عندما كانت تحدد حدود الدول بآخر نقطة يصلها جواد الفارس المنتصر.
الوضع السياسي تغيّر، ولا يعني هذا أن الدين تغيّر. الفتوحات والإمبراطوريات الإسلامية، التنظيمات السياسية، تزول وتفنى، ولا يعني زوالها أو فناؤها أن الإسلام انتهى.
ولهذا، فإن تصور كائنات الجبهة بأنهم لا يزالون في زمن الفتوحات لا يعني قوة إسلامهم، ولكن يعني تخلفهم السياسي، وعزلتهم في كهوف لا تصل إليها تطورات السياسة والدول.
هل يعرف شيوخ الجبهة أو كائناتها المضحكة المخيفة أن الدول الآن لا تتكوّن بالحروب الإمبراطورية، ولا تقسم المواطنين درجات على حسب الدين أو اللون أو الجنس؟
الكائنات الخارجة من الشقوق لا تعترف بأن المسيحيين في مصر مواطنون وليسوا ضيوفاً. والدولة في مصر غالبيتها مسلمة، لكن دستورها لا يفرّق بين المواطنين على أساس الدين؟ هل يجد الخطاب المجنون للكائنات العجيبة هوى عند الناس في مصر؟
الإجابة غالباً: نعم. والواقع أن الكائنات تجد آذاناً تسمع، وتتدغدغ مشاعرها من بيانات تشبه الحرب الأهلية. غوغاء ينتظرون الدفاع عن مقدس، أو الانتقام من عدو، وها هو العدو جاهز، اتباع دين آخر، وشركاء يزاحمون على فتات بقي من موائد مصاصي الدماء.
الغوغاء لهم جاذبيّة أعادت الطاقة للجبهة، أما المؤسسة فسارت باعتدالها الى منطقة محظورة.
مجمع البحوث الإسلامية، عقل الأزهر، أصدر بياناً ردّ فيه على تصريحات الإنبا بيشوي عن آيات القرآن الكريم المعادية للأقباط. قال البيان: إن مصر دولة إسلامية، وإنه لا مراعاة للمواطنة إذا حصل الاعتداء على الهوية الإسلامية.
كيف التقت المؤسسة المعتدلة مع جبهة المنشقّين المتطرّفين؟ إنها فكرة السلطة الدينية عندما تلعب في السياسة، وتستمد سلطتها من جمهور يذوب في مقدسه. الفكرة مثل القنبلة يمكنها أن تنام في مخزن فتسمّى اعتدالاً، لكنها مع اشتعال الحرارة فإنها تشتعل ببساطة متناهية.
لا أحد يهمّه إشعال الحرائق، الدولة تخضع للابتزاز الديني، بل تغرم به، لا يهمّها أساسياتها: المواطنة والتعدد الديني والمساواة.
المسلمون يتعاملون على أن المسيحيين لهم حقّ الضيافة، ويصفونهم في مواضع سياسية بتوصيفات لها مدلول ديني: النصارى وأهل الكتاب.
الأول تاريخي، والثاني ديني، ولا علاقة لكل منهما بالتوصيفات السياسية والاجتماعية. والأقباط نافسوهم على إعلان الضيافة، الإنبا بيشوي بدأ حروبه الكلامية بإشارة الى أن المسلمين ضيوف على المسيحيين في مصر، ضيافة تعتمد على قراءات تاريخية لطبقات مصر الدينية والاجتماعية، واختصار مخلّ بتركيبة معقّدة للغاية.
لكنها مناخات مشحونة، والسباق على الضيافة جزء من حرب تسعد النظام القلق على خلوده، حرب بين «الغلابة» و«الغلابة»، كما قال أحد الظرفاء.