ثائر السهليينزوي المخيم حين يصاب أبناؤه بحمّى شرائية عارضة، يضعف حين يغزوه «المتفاعلون اجتماعياً»، أي المحيطون به أو زائروه من غير سكانه. يحدق هؤلاء فاغرين أفواههم إلى واجهات المحال التي يأتونها ربما لأنها أرخص، حتى من دون أن يلمحوا صورة الشهيد الأخير أو ملصق التشهير!
ومع ازدهار حركة البيع والشراء داخل المخيم إلى حدود يبسم لها التاجر ويرتاح، ينوء أبناء المخيم تحت وطأة التلوّث النفسي، حيث ما انفكّ يدفعهم إلى التأمل في غموض «غين» الأماكن المغلقة، وفي الشارع أنياب تنهش العين الباقية من شعار «عيدنا... يوم عودتنا»، وتأمن «عين» البضاعة خلف الزجاج وفوق الرفوف.
يسهر المخيم ليتأكد من تأدية أبنائه فريضة انتمائهم المعمّد بالدم، وحجيجهم الدوري إلى الأمس النازف وإلى شواهد الرخام. صبيحة العيد، يصير الطريق الطيني إلى مقبرة الشهداء مسرباً مخضوضراً متحركاً، سطر نمل من المنفيين يحمل عروق نبات الآس المقطوف من أجل الموتى وسعف النخيل، وببراعة يحملك هذا الجدول الأخضر حين تقتفي أثره إلى المقبرة. حقيقي هو المخيم ساعتئذ، بسيط وعفوي، خضرة تموّه الواجب الوطني بالروحي، ويشبه البعض البعض الآخر... ولو إلى حين، لذا يخطّون باستعجال للسلام على النائمين المطمئنين.
يؤمّ المخيم الشهداء بدون «تعميم» حزبي أو تنظيمي، فهم أبناؤه ماتوا غدراً أو عن صواب، يحتفي بـ«الأحياء» يعايد بعضهم بعضاً على باب المقبرة، ولا يحتفي بالموكب الطارئ على مشهده الملحمي، حين تنعق أبواق السيارات منبّهة إلى وصول «القائد» شخصياً إلى المكان. يصل القائد بعد أن يكون أعوانه ورفاقه قد سبقوه مبكرين من أجل أن «يؤمّنوا» المقبرة له، ممن قد تفلت منه ما لا تُحمد عقباه. لحظة و«يشع» الرجل أبيض مترجّلاً من سيارته في الساحة الاسفلتية.
المسرب الأخضر لا يوقفه الانتشار المسلح ولا يخيفه، ينتشر بين القبور ويتفشّى كبقعة تتجنّب الساحة الاسفلتية. يتسارع الزائرون في إنهاء فروضهم، يرحلون أسرع وأخف مما جاؤوا، مخلّفين الأخضر فوق الرخام. ينسلون من دون استئذان خارج المقبرة المخضرة بذكر الأحياء لأمواتهم، غير مكترثين للخطاب الحماسي الذي يرتجله القائد العبقري في خطبة العيد، ويلقيه على حرسه وأعوانه الذين يكررون التصفيق بعد كل كلمة، موافقين. ينهي المنفيون زيارتهم للشهداء قلقين عليهم من هذا الاجتياح المسلح للمقبرة، وواثقين من حقيقة واحدة بأن الشهداء يسبحون خلف الحقيقة، وربما خلف الحدود والبرزخ، لا يسمعون ولا يبصرون، ينعمون بالجنة، غير مبالين بالخطاب الملطّخ بالطين يحتفي بالموت وتلمع له المسدسات بهجة على خصر الحرس.