ضرب «الدستور» نُشر لتحذير الآخرين: الصدمة والرعبوائل عبد الفتّاح
«حتى المنتخب انتهت أيامه السعيدة»، قالها الرجل الذي يجلس وحده محاطاً بصحف اليوم، ويتحدث عن مشاعره العنيفة بالخريف، وتقلّب الأجواء في القاهرة. ينظر إلى الأوراق المكوّمة أمامه بارتباك ويوجّه كلامه بصوت عالٍ إلى جاره الذي لا يعرفه: «أهو منتخب حسن شحاته اتغلب والدستور اتقفل».

العلاقة واضحة بين هزيمة المنتخب وما حدث لصحيفة «الدستور» بالنسبة إلى شخص عاش سنواته، التي تقترب من الستين، منتظراً قراءة خبر لا يأتي.
إنه الخريف أو الأفول أو آخر تلك المصطلحات التي تحاول وصف ما يحدث في مصر. المنتخب عاد إلى عصر الخسائر، والنظام عاد للضرب بعنف تحت الحزام. المنتخب انسحبت قوته فجأةً، كأنها كانت نتيجة حبوب فوّارة انتهت صلاحيتها، وهكذا أيضاً تبخرت سنوات الغضب والإصلاح في رمشة عين.
التبخّر والحياة في السراب، مشاعر تصيب بالرعب والإحباط، حتى من اتخذوا مسافة نقد واسعة من مدرسة «الدستور» في المشاغبة الصحافية.
الرعب هنا عمومي، تصنعه أصابع تستخدم تقنيات المسرح المكشوف، يراها الجميع، لاعبون وجمهور، وتصنع دراما فاقعة تخلق أبطالاً وضحايا، قتلة وأنذالاً، غدراً ومأساوية، كوميديا وسوداوية العدم. الدكتور السيد البدوي اختارت له الأصابع، أو دفعته، إلى دور الانتحاري، ليس على الطريقة اليابانية، لكن على طريقة حواة الموالد، الذين يبتسمون وهم يضعون النار في أفواههم، ولكن غير المحترف منهم تحرقه النار قبل أن يكتمل العرض. البدوي صعد إلى الخشبة محاطاً ببروباغاندا وعواطف فيّاضة، لاعب جديد وصل، بعد «تجربة» ديموقراطية، إلى رئاسة حزب «الوفد». الأضواء رسمت صورة النموذج الديموقراطي، على وجه الرجل الذي يشبه شخصيات مسرح العرائس، حيث الماكياج البارز أهم من الملامح، وهذا ما جعل الحضور الكبير للابتسامة والشارب المصبوغ في وجه البدوي.
السيد البدوي دُفع إلى الانتحار السياسي على طريقة حواة الموالد
القفزة الديموقراطية في «الوفد» كانت تعبيراً دراميّاً عن رغبة النظام في «تصنيع» حزب يؤدّي دور السنيد في الانتخابات، تنفيذاً لنصيحة أميركية تلقّاها مبارك في أول زيارة لأوباما، عن اختيار حزب يميل إلى الليبرالية، يصلح لدور «الحزب الكبير» في انتخابات ٢٠١٠. «الوفد» مناسب للدور، له تاريخ قديم، جسد ممتد، ويستقطب مليارديرات من عائلات برجوازية ما قبل تموز ١٩٥٢، أو آخرين ممن وجدوا طريقاً بين ديناصورات الحزب الوطني الحاكم.
المال وحده انتصر في معركة البدوي، ملياردير الفياغرا، الذي حل محل محمود أباظة، سليل العائلات الوفدية القديمة، في مرحلة ثالثة للحزب يتبدّل فيها حسب الطبقات الاجتماعية السائدة. وبعد الطبقة الوسطى بقيادة سعد زغلول، وامتداده في مصطفى النحاس، تسرب ملّاك الأراضي والإقطاعيّون مع فؤاد سراج الدين، وامتدت المرحلة بعد العودة في ١٩٨٤ إلى أن قفز البدوي ممثلاً طبقة الوكلاء التجاريّين، الذين أدّوا دور الرأسمالية، كما أدّوا دور الليبراليين، بينما هم خليط من رعايا منح الدولة، ونتاج إغماض عين بيروقراطيتها عن طرق الصعود السريع إلى قمة الثروة والسياسة. مصلحة هؤلاء مع النظام، لا مع غيره، وتحالفهم الأساسي بحكم الولادة والنشأة والمصير مع مفاتيح الدولة: الأمن والموظفين الكبار.
الغريب أن البدوي لم يتوقع أن يقوده السير في هذه الطريقة إلى انتحار مبكر. تصوّر في نفسه الذكاء اللازم للسير في اتجاه الرياح السائدة. البدوي لعب على «الديموقراطية المصرية»، مع تعديل استفاد من قوة حضور الميديا في التفاعل السياسي. لم تغب صورة رئيس حزب «الوفد» المنتخب عن الصفحات الأولى للصحف، وصور توقيع نجوم الرياضة والصحافة والإعلام على استمارات عضوية الحزب. والأهم عندما قفز إلى صفقة بيع «الدستور»، التي يبدو أنه استُدعي فيها ليقطع الطريق على مشترٍ آخر من جماعة «الإخوان المسلمين».
سار في الصفقة إلى أن تمّت ثم انسحب، بعدما أقال مؤسس «الدستور» صحافياً، إبراهيم عيسى، بطريقة لا تخلو من توابل الدراما التقليدية: الغدر والخيانة واللعب على الكلمات.
لكن البدوي ليس خبيراً، وتربيته سريعة. لم يتلقّ دروساً احترافية في العمليات الخاصة، ولهذا انفجر في نفسه، وأصبحت سمعته السياسية على المحك.
رغم أنه كشف عن ذكاء في إخراج قرار «الوفد» المشاركة في الانتخابات البرلمانية، افتقد البدوي الذكاء في علمية تدمير «الدستور». هل المقصود هو نشر «الصدمة والرعب» بضرب أكثر نقاط الصحافة والسياسة انفلاتاً؟
«الدستور» منفلت عن مزاج الصفقات الصحافية والسياسية. الجميع تحت سيطرة التفاهمات المشتركة، والسيناريوهات المكتوبة بركاكة، لكنها ركاكة ناجحة في تعليب منتجاتها.
وضرب الانفلات هو الهدف الكبير، والتكسير العنيف رسالة واضحة تصيب أبناء التفاهمات بالرعب، سواء كانوا في الأحزاب أو في الفضائيات، كلهم يقفون في فراغ من صنع النظام. ولهذا فضرب «الدستور» هو تحذير للآخرين، ولا بد أن يكون مدوّياً ولو انفجر في وجه جميع المشتركين في العملية.