strong>وائل عبد الفتاحهل يبدو الرئيس مبارك في الطريق إلى «جمهورية سادسة»؟ الإجابة عند مؤسسات الكواليس، أو بتحديد أدق، في شكل الدور الذي قررت هذه المؤسسات أن تؤديه في حرب الخلافة. هل ستدفع إلى تغيير ناعم، أم ستختار سيناريوات أكثر إثارة لتبدو الحاجة إلى «النواة الصلبة» لتحمي الدولة؟

البحث عن ثور



«حب سد» قالها ولم يبتسم في البداية. محاسب يقترب من نهاية الأربعينيات يهتم من بعيد بالسياسة، وكانت مفاجأة أن يقطع الكلام في ما يحدث في مصر بهذه الكلمة الغريبة.
ابتسامة الرجل بدأت عندما توقف المتحدثون عن الاستمرار وسألوه عن معنى الكلمة. قال وابتسامته تكبر: «المصريون القدامى كانوا يحتفلون بمرور 30 سنة على حكم الفرعون… كان عيداً دينياً وسياسياً… وفيه كان الملك يصارع ثوراً… ليؤكد استمرار قوته رمزياً ومادياً». هذا إذاً هو «حب سد»، الذي تقول الموسوعات المهتمة بالثقافة الفرعونية إنه في هذا العيد يظهر الملك على عرشه في كامل قوته ويعاد بناء منازل اليوبيل في المعابد من الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
أين الثور؟ كان السؤال الذي نقل السخرية إلى الواقع مباشرة، وبدا أن فكرة «البحث عن ثور» لإظهار قوة الحاكم، تفسر ما يحدث في عملية نقل السلطة.
لحظة النقل ممتدة ولا ترتبط فقط بموعد انتخابات الرئاسة في خريف العام المقبل. النقل يجري الآن، بمنطق قريب من العيد الثلاثيني، ليكون «الانتقال» أقرب إلى التجديد أو التمديد.
إنه وقت اللعب الكبير، وهناك مسرح ألعاب خطرة، يجهز على نحو غامض، على طريقة الاحتفالات القديمة، لتصبح عملية الانتخابات الرئاسية مجرد انتظار للمنقذ أو مبعوث العناية، حامي مصر والعابر بها إلى شاطئ الأمان.
صورة كانت في خلفية كلام رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف الذي قال إن «إعلان مرشح الوطني (الحزب الحاكم) للرئاسة يتوقف على قرار مبارك نفسه…». وأضاف: «نحن شرقيون نحترم رؤساءنا، وسننتظر قرار الرئيس قبل البحث عن بدائل». ثقافة الاستبداد الشرقي مسيطرة على عقل رئيس الحكومة الفخور بـ«القرية الذكية» والبنية التحتية للمعلومات، لكن هذه «نقرة» (click) والحكم «نقرة» أخرى.
مجتمع حديث يحكم بالاستبداد الشرقي. هذه صورة «الجمهورية السادسة» لمبارك، تتوازى معها صورة أخرى تتحطم فيها تابوات سياسية واجتماعية إلى حد الانفلات، ليبقي المحظور الوحيد: حمل السلاح والحلم بالهبوط على مقعد الرئيس.
مجتمع منفلت، مهدد بالفوضى، والحل في المؤسسات الصلبة: عنوان الضبط والربط، ورمز الرعاية الأبوية لشرائح لا تزال تنظر للحاكم نظرتها للفرعون، والأب، والحاكم الشرقي. لا تبحث هذه الشرائح عن ديموقراطية وتداول سلطة. تبحث عن قوة تحميها (ترسي الأمن في الشوارع) وترعاها (توفّر رغيف الخبز) وتضمن لها الحد الأدنى (المسكن والملبس).
عناصر جديدة نقلت الأمن القومي من الحدود إلى المعارك اليومية، ومن الحرب مع إسرائيل إلى رغيف الخبز، ومن الدور الاقليمي إلى بيع الأراضي والمجمعات السكنية. وهكذا تمهد الأرض أمام منقذ من داخل مؤسسات السلطة ذاتها. تشارك في طقوس التمهيد معارضة خيالها ساذج، عبر تضخيم بالونة جمال مبارك. جمال مبارك ومن معه يريدون طرح اسمه بقوة كطرف في الجدل الدائر حول الرئيس المقبل. والمعروف أنه في وجود الرئيس مبارك لن يستطيع جمال مبارك الترشيح، ولو استقرت المؤسسات الصلبة على اختيار اسم آخر يعبر بالبلاد الأزمة الصعبة، لن يكون جمال مبارك.
هناك إذاً ثلاث جهات تنفخ في بالونة جمال مبارك:
1 ـــــ مجموعة جمال مبارك والمستفيدين من قفزته إلى الكرسي.
2 ـــــ مجموعات تعمل في الخفاء وتسعى الى تحويل الرئيس مبارك إلى منقذ، لا مجرد رئيس يختلف على انتخابه، أو يدعمون فكرة خروج الشخص المنتظر من خلف الكواليس.
3 ـــــ المعارضة الساذجة، وبينها أصحاب المصلحة في تقديم أوراق ترشيحهم لدور السنيدة في فيلم الانتخابات.
هل سيؤدي جمال مبارك دور الثور في طقوس «حب سيد»؟
صورة أسطورية تنقل الصراع باتجاه تخليد السلطة. جمهورية العسكر تغيّر نواتها الصلبة، وهذه مفاجأة لمن اعتقد أن صلابة المؤسسة تضعها في استقطاب: السيطرة الكاملة أو الكسر بفعل عوامل التغيير المحلية والدولية.
النواة الصلبة لم تعد الجيش بمفهومه كما حكم في تموز١٩٥٢، أو بما نقله السادات إلى خلطة العسكري والمدني، عندما ارتدى ثياب الفراعنة في عرض عسكري، وارتدى ثياب القرويين في احتفالات عيد ميلاده ونافس على أكثر الرجال أناقة في العالم.
تمدين المؤسسة في عصر السادات لم يبعد المؤسسة العسكرية عن السلطة، وهو ما يفهم من تفسير السادات لاختياره مبارك نائباً في مؤتمر صحافي نادر عام ١٩٧٥ قال فيه: «اخترته (مبارك) لأنه لا بد في المرحلة المقبلة من أن يكون النائب من أبطال حرب أكتوبر. يعرف كيف يتخذ القرار وينفذه ليتحمل مسؤولية مصر».
كانت هذه مرحلة انتقالية من جنرالات الثورة إلى جنرالات النصر على إسرائيل. في ذاك المؤتمر كانت لهجة السادات لا تخلو من قوة المنتصر، الذي ينقل بقوة هذا النصر الدولة من «شرعية» إلى «شرعية» أو من فرقة إلى أخرى بالطابع العسكري نفسه.
المؤسسة العسكرية اكتفت في عصر مبارك الطويل والممتد بالسيطرة لا السلطة. وفي لحظات الانتقال إلى «الجمهورية السادسة» يبدو أن هناك موجة أخرى لا تنسحب فيها المؤسسة العسكرية من الصراع، لكنها تعيش موجة أخرى من صراع مع المتغيرات المحلية والدولية.
إلى أين سيصل هذا الصراع؟ هل تستوعب المؤسسة التغيرات؟ أم تستوعبها التغييرات وتدخل في تكوين القوى الجديدة؟
قد تدرك المؤسسة أن الرئيس المقبل (ولو كان مبارك) لن يحكم مثلما حكم مبارك وأسلافه الستين عاماً السابقة. وقد يدرك المجتمع أنه لا تغيير بدون حساب موقع للمؤسسة العسكرية.
هذه هي العناصر الأساسية في «الجمهورية المنتظرة»، ولأن المؤسسة أقوى وأقدم من قمة المجتمع المدني الطافية، فإنها الأكثر قدرة على الحركة، وتدير الأمور كما لو كانت كل المفاتيح بيدها. وإن كانت بعض المفاتيح بعيدة عنها، فإنها تبحث عن مفتاح الاستيعاب لا الصدام.

شراكة «جيش المال»


رأس المال في مصر ليس لاعباً على هامش السلطة، بل أصبح جزءاً لا يتجزّأ منها، بل أصبحاً شريكاً برضى أصحاب السلطة، الذين كوّنوا ما يمكن تسميته «جيشاً مالياً»
«ها تضيعوا البلد». تسرب خبر صيحات الاعتراض أكثر من مرة على خطوة في اتجاه «تفكيك» أملاك الدولة في مصر. التسريب يكشف عن صاحب الصيحة بتعريف واحد: جهات سيادية، أو وزير سيادي، إلى آخر الشفرة المستخدمة للإشارة إلى أجهزة لها طابع عسكري وآخر مدني. «البلد» لها مفهوم لدى هذه الأجهزة الحارسة، تسمح بمساحات للاختلاف حسب إيقاع يتحكم في درجته الرئيس نفسه. وهكذا تتكشف صراعات غير تقليدية، ولا مفهومة، مثل التي حدثت في محاولة حل أزمة بطلان عقد «مدينتي»، عندما اعترضت جهات في المؤسسات السيادية على إعادة بيع الأرض لهشام طلعت مصطفى، لكنه اعتراض لم يصل إلى حد المنع كما حدث في بيع بنك القاهرة، حين تعطلت عملية البيع بعد عدة محاولات فاشلة.
وبدا أن النظرة إلى رجال المال باعتبارهم «تصنيع الدولة» يتزحزح إلى صورة أخرى، لا يكون فيها المال تابعاً تماماً للسلطة. ينتقل من التبعية إلى نوع من الشراكة، ليس كاملاً، لكنه فعال في تحديد شكل الحكم، واختياراته.
المال بشكل أو بآخر احتل مساحات مستقلة عن القوى القديمة في الدولة، وهذه مرحلة انتقالية لم يكن يتمناها المجتمع المدني في مصر، لكنها تجري وفق إيقاع سريع تماماً، تزاحم فيه قوى المال ما يسمى القوى الصلبة في الدولة.
من يدفع ثمن هذه المزاحمة؟ وهل هذه المزاحمة هي سبب رئيسي في قوة أسهم الرئيس مبارك في الاستمرار؟
الرئيس يرتدي بذلة الجنرالات، لكنه عبر سياسة منظمة خلق جيشاً آخر من اصحاب ثروات، تديرهم الدولة كما تدير كل مؤسساتها الصلبة. الجيش المالي حقق ملكيات واسعة للأراضي والعقارات، من دون أن يحولها إلى تراكم اقتصادي ينقل مصر إلى مصاف الدولة المتقدمة في التنمية. الانتقال هنا في موقع المال بالنسبة إلى السلطة، من التبعية إلى الشراكة. وإذا كان جنرالات أكتوبر قد شاركوا بنصرهم جنرالات تموز (يوليو) وأبعدوهم عن السلطة، فما هو الإنجاز الذي حققه الجيش المالي ليزاحم على السلطة؟ وكيف سيكون شكل الحكم بعد هذه المزاحمة؟ وكيف ستكون سيطرة النواة الصلبة على الجمهورية السادسة؟
أسئلة في مهب الريح.

أوكسيجين الفوضى الحرّة



«إذا الشعب يوماً أراد الحياة»، فماذا يفعل هذه الأيام؟ النظام وجد للشعب عملاً في أوقات فراغه. النظام يبحث عن كومبارس يؤدي دور الشعب.
هناك عباقرة من الجيوش الإعلامية المحيطة بجمال مبارك يروجون لخطة محكمة: لماذا نترك الشعب للمعارضة؟ المعارضة خطفت الشعب، ونحن أقدر على استرداده. هذه صيحات تكاد تسمع عالية من مقارّ الحزب الوطني ومكاتب أحمد عز الموزعة في أكثر من حي، لتتكرر مسرحية حرب شوارع وهمية بين أنصار جمال مبارك مع جمهور البرادعي.
لم يجد الحزب الوطني شعباً حقيقياً، فكان عليه أن يدفع ثمن تأجير شعب، إيجار لمدة عام واحد حتى تنتهي «اللعبة الكبيرة» باستمرار الرئيس مبارك على مقعده الخالد. هذا الشعب لا يخوض حرب الشوارع فقط، لكنه وقود الحشود العمياء التي تسير وراء المعارك الفوارة. تبدأ المعركة الفوارة بسؤال جذاب من نوعية: هل حُرِّف القرآن الكريم؟ هل يخزّن المسيحيون الأسلحة في الكنائس؟ هل قتل عبد الناصر بسم دسّه السادات في قهوة من صنع يده؟ هل ستنتخب رئيساً ترتدي بناته المايوه؟
أسئلة تطرح في سياق كسر تابوات اجتماعية وسياسية. لدى الدولة مصلحة في السماح بها، بعدما كانت الدولة بيدها المحافظة تبني غلافاً صلباً. الغلاف يتحطم تحطماً غير مسبوق. المسلمون لم يتخيلوا أن يظهر زعيم ديني مسيحي ليعلن تحريف القرآن، كما يجرؤ المشايخ المسلمون على اتهام الإنجيل والتوراة بالتحريف. القنبلة انطلقت ولم تمنعها الدولة، كما لم تمنع المطالبة بالتفتيش على الكنائس. التابو يتكسر تحت عين القوى الحارسة للدولة، وبحسابات دقيقة تضع فيها خطوطاً حمراء: السلاح ووصول شخص يعتمد على قوى أخرى (مثل الإخوان المسلمين).
هذه خطوط حمراء يُسمح في مقابلها بما لم يكن يسمح به من قبل، بداية بنقد الرئيس إلى حد السخرية العنيفة، كما حدث مع فضيحة صورة «الأهرام»، التي قدّمت مبارك على أوباما وكل المشاركين في المفاوضات. سخرية غير مسبوقة، تكسر هيبة الجالس على المقعد، لكنها لا تصل إلى مرحلة الكسر الكامل. هل هناك بالفعل من يمسك خيوطاً بهذه الدقة، أم أنه خيال يتوهم حضور ضخم لمؤسسات تعمل خلف المسرح؟ هل الإحساس بهذه المؤسسات أكبر من حجمها الحقيقي؟ وهل يمكن أن تعمل بالآليات والطرق نفسها المتبعة في الجمهورية العسكرية بعد ١٩٥٢؟
أسئلة ستظهرها الأيام المقبلة، لكن الأحداث تشير إلى أن هناك أوكسيجين ما بعد كسر التابوات، أوكسيجين الفوضى الحرة، من دون قوى تجمعها.
الفوضى تثير الرعب، وخصوصاً أن هناك من يرى أن وصول جمال مبارك ومجموعته إلى السلطة سيناريو مدمر للدولة، وسيعطي لجماعة الإخوان المسلمين الثمرة التي انتظروها ما يقرب من ٨٠ عاماً. وصول الابن فجوة سوداء في دولة، من مصلحة القوى الدولية، أن تبقى قوية في مرحلة ضبط إقليمية. وهذا ما يجعل السماح بحرية المجتمع في الانفلات من مصلحة قوى لا تريد للصدام مع المجتمع أن يصل إلى «استخدام السلاح» وتسعى إلى التخفيف من حدة المطالبات بالتغيير السياسي، لمصلحة معارك الانفلات الاجتماعي.