Strong>وائل عبد الفتاحتناقلت الصحافة خبر ترشح شقيقين على مقعد واحد. كل منهما عن حزب مختلف. الحدث طرفة في مناخ تبدو فيه العائلة أداة حكم، والجمهورية هي كعكة عائلات، تتقاسمها حسب النفوذ والميليشيا التي تحمي الصندوق والهيبة، العائلات تحكم والسياسة تدار بمنطق إقطاعي من دون إقطاعيات

الخوف من الانتقام



أين ستذهب العائلة من دون الحكم؟ هل يمكن فك الارتباط بين العائلة ومقعد الرئاسة؟ رغم ظهور جمال مبارك المفاجئ أول من أمس في تلفزيون الحكومة، فإنه، بطريقة ما، اختفى أمام صعود عناصر الدولة القديمة. لكن هل يعني اختفاء جمال اختفاءً لحلم العائلة؟ مؤسسات إعلامية خاصة تعدّ الآن ملفات حملة لترويج علاء مبارك، الابن الأكبر. الخبر غير معلن، ولا يحمل تفاصيل عن عملية الترويج، لكنه يعتمد على فكرة صغيرة: ما دام جمال لم يستطع تكوين شعبية، فلماذا لا يُستفاد من شعبية علاء مبارك المرتبطة بعناصر غائبة الآن في حضور العائلة؟
«قد تلعب الحملة أو العملية القادمة على غرام غير معلن للمصريين بالملكية…»، هذا منطق موجود لدى شباب يعملون في مجال التسويق الاجتماعي، ولا يرون حاجزاً كبيراً بين قبول الملكية وبين رغبة المصريين في التغيير.
إلى أي مدى هذا المنطق حقيقي؟ ولماذا لم تنجح عملية الابن الأصغر إذن؟
الكاريزما هي أكثر ما يفتقده جمال مبارك، ولم تنجح التدريبات المكثفة على الابتسام، إلا في إزاحة بعض الجمود عن ملامح الشاب، الذي أعلن في التلفزيون أن «ليس لديّ طموح خاص… أنا أدفع فقط عملية التغيير». ولأن معنى الكلام يختلف، فإن التغيير الذي يقصده جمال مبارك كان صعوده إلى الحكم. كما أن شعار الحزب الوطني في الانتخابات «علشان تطّمن على مستقبل أولادك» رأى فيه أحد الساخرين أنه إعلان صريح أن الرئيس يريد أن يطمئنّ إلى مستقبل أولاده. علاء؟ هل هي رغبة من العائلة في الاستمرار مؤسسةً مشارِكة من الباطن في الحكم؟ علاء عاد بعد اختفاء، صورته أو قصصه انتشرت قبل جمال. كان وحشاً يلتهم كل شيء في الاقتصاد، مجال أعماله يكتسح كل ما يريده، وبسبب هذه الصورة انتشرت نكت كثيرة ترسم صورة علاء مبارك الشريك في كل مشروع يقام على أرض مصر. وبعد حادثة شهيرة اتهمته فيها النميمة الاجتماعية بالحصول على توكيل السيارات بالقوة، مات صاحبه، المعروف بعلاقته القديمة بالضباط الأحرار. العودة ارتبطت بمواقف شعبية، قاد فيها علاء مبارك الموقف الشعبي في مباراة الجزائر الشهيرة. كما أن حضوره مشجعاً في مباريات الإسماعيلي، ثم موت ابنه الكبير فجأة، أضافا تعاطفاً إلى رصيده.
هل هي محاولة العائلة للبقاء؟
العائلة الحاكمة، بذرتها كانت في العصر السابق على مبارك، كان السادات يحب صورة «كبير العائلة». يريد أن يكون كبيراً، ومصر هي العائلة. وهي طريقة في التفكير مثيرة للتأمل: كيف تتحول دولة إلى عائلة؟ قد تكون هذه هي الطريقة الوحيدة لسيطرة الرئيس على مقدرات دولة عبرت بصعوبة من حكم عائلة محمد علي وتعثرت في منتصف الطريق لتكون جمهورية يحكمها الشعب.
الرئيس يريد السيطرة بأسلوب يمزج بين نازية هتلر وثقافة ريفية تضع العائلة في أعلى مراتب التكوينات السياسية والاقتصادية. العائلة هي المؤسسة القابلة للتحقق. الدولة هي العائلة. وبعد قليل تحولت العائلة إلى دولة تسعى إلى حماية الرئيس وتطالب بنصيبها. فالمنصب فرصة. وقسمة العدل أن تكون السلطة للرئيس. والنفوذ والثروة للعائلة. والفرصة ذهبت لأنور، الذي اختار لعائلته اسماً آخر بدلاً من «الساداتي».
حذف حرف الياء كان كافياً للإيحاء بالامتداد مع اسم الشيخ السادات، أحد أشهر نجوم مقاومة الحملة الفرنسية.
صنع الرئيس تاريخاً له وللعائلة.
والعائلة أصبحت مؤسسة تتصارع الآن. طلعت يهدد رقية الابنة الكبرى للرئيس بأنه سيفتح ملفاتها. وهي تردّ بتهديد مضاد وتتكلم عن ملفات أخرى وتقدم بلاغاً للنائب العام تتهمه بالإساءة إلى سمعتها وإلى سمعة الرئيس.
العائلة ظلت لعنة طاردت الرئيس في حياته. أصدر أمراً باعتقال الأخ الأكبر طلعت، المتهم بقيادة عصابة مخدرات. وقاطع الأخ الأصغر عصمت ومنعه من دخول البيت. اللعنة لم تقتصر على العائلة الكبيرة. فقد كان اتساع نفوذ الزوجة جيهان سبباً في سخط شعب محافظ لا يعترف بأدوار للزوجة أكثر من البيت، وكانت قبلة جيمي كارتر هي ذروة الغضب. فالرئيس الذي لعب على فكرة كبير العائلة وأخلاق القرية، وحوّل قريته ميت أبو الكوم إلى مركز للأضواء، يرتدي في بيته عباءة وجلباباً ريفياً ويتحدث عن ذكرياته بمنطق الأب الذي يعطي خبرته للشعب. هو نفسه أحد أكثر الرجال أناقة في العالم، يرتدي بدلات تحمل تواقيع أشهر مصممي الأزياء، ويترك زوجته تراقص رئيس أميركا أمام العالم. هذه الازدواجية أوقعت الرئيس في فخ فضيحة عائلية، ربما كانت هي السبب الحقيقي لاغتياله.
لعنة العائلة لم تنته بموت الرئيس.
وكما كانت مجموعة موظفي عبد الناصر هدف تصفية الرئيس الراحل، كانت عائلة السادات هي هدف التصفية وإعلان بداية عهد جديد.
هل هذا ما يجعل عائلة مبارك تبحث عن طريق آمن يحميها من الانتقام؟

سياسة حرب العصاباتالسياسة في مصر ليست بعيدة عن حرب العصابات الشهيرة بأفلام المافيا الأميركية. الكل، من أصغر سياسي حتى الرئيس، لديه فريق يحميه من اعتداءات المنافسين
السياسة كعكة… والانتخابات محاولة إعادة توزيع الأنصبة.
من يحمي النصيب غير قوة تقليدية قديمة، بدائية أيضاً؟ هكذا فإن الانتخابات في مصر هي موعد موسمي لتوزيع الكعكة… وذلك يكون غالباً وفق حرب العائلات… وهذا هو القانون الواقعي الذي تتفق عليه الحكومة والمعارضة، الرئاسة وأصغر متابع للانتخابات.
العائلة هي القوة التقليدية، عندما تبحث عن شحن لبطارياتها في دولة حديثة، لم ترسخ أعمدتها في المجتمع. وبعدما كان عبد الناصر ينشر قصص الفخر بأسرته المتواضعة، ليضرب حكم العائلة الواحدة بقوة، أصبح الفخر بالعائلة هو سر الوجود، واختصر التنظيم السياسي الحديث (الحزب بصورته الشمولية والتعددية) بصفته أحد عناصر القوة إلى جانب الثروة وملكية الأراضي… أصبح الانتماء إلى الحزب الحاكم طريقاً لصنع عائلة قوية.
هكذا يكون الحاكم ابن عائلة صغيرة، لكن الجبروت يصنع لها وزناً وقوة. جبروت سلطة حاكم يقترب من أن يكون إلهاً. لا أحد يناقشه. ولا أحد يستطيع الوقوف أمام شخص يحمل اسمه. يبدأ الحاكم في مصر متواضعاً يسعى إلى محبة الناس... ومحاربة الطواغيت ومطاردة أوكار الفساد. وبالتدريج يعزل الحاكم بحاشية من الموهوبين في التبرير والتوريط والخبراء في طقوس التقديس. وكلما ركن الحاكم إلى موديل الفرعون الذي لا يناقش ولا يسمح بالاختلاف، يصبح هؤلاء الوسطاء والعارفين والكهنة وأصحاب الحظوة. الخطوة التالية هي تقوية شبكة فساد محمية بقصور الحكم. وهذا ما يجعل الشبكة أقوى في النهاية من إرادة الحاكم إذا ما أراد التغيير.
العائلة في الصعيد أقوى، في سيناء القبيلة، وفي المدن الكبيرة تمثل المجموعات المنتمية الى نفس مدينة الأصل بديلاً للعائلة أو صورة لها. العائلة هي التنظيم السياسي البدائي الذي لا يزال فاعلاً، والحزب هو مجمع عائلات.
روى قاض شارك في الرقابة على انتخابات 2005، أنه بعدما انتهى التصويت، وُضع الصندوق في سيارة الشرطة وركب معه متوجهاً لإعلان النتيجة. فجأة قطعت عليه الطريق ميليشيا مسلحة من عائلة أحد المرشحين. طلبوا منه تسليم الصندوق. لم ينقذ القاضي تدخّل الشرطة، بل ظهور ميليشيا العائلة المنافسة.
كيف تكونت هذه الميليشيات؟ هل بعيداً عن أعين الدولة؟ أم أن الدولة لعبت بها لكنها خرجت عن السيطرة؟ كل عائلة كبيرة لها طموح مالي أو سياسي، تؤلف عصابة داخلية، أو تبحث عن قتلة مأجورين لتزرع بهم قوتها في حرب المواقع المالية والسياسية.
هذه الطموحات المتقاتلة تصنع نوعاً غريباً من العدالة، عدالة تجعل من الأشخاص ممنوعين من الاقتراب أو اللمس. شخصيات فوق القانون، يحميهم جيش من المأجورين، وعصابات تزوير وقتل وتلفيق قضايا.
الوجود بالعصابات أصبح قانوناً. لا فرق هنا بين شخص مشاغب يبني سمعته على امتلاكه عصابة سرية، وبين شخص يؤجر بلطجية، لكنه طيب، ولا يحب المشاكل.
لكنه قانون الملعب إذا أردت البقاء داخله.
العصابات السرية موجودة وتحسم الخلافات وتفرض حضور القادر على دفع تكاليفها. إحدى مهماتها «تصفية أصحاب اللسان الطويل». أحد خبراء الحكايات الخفية روى لي أكثر من مرة عن عصابة حقيقية يديرها سرّاً ومباشرة شخص كبير في السلطة. كبير بالمعنى الموجود في السنوات الأخيرة. قريب جداً من القصور التي تحكم مصر. لديه ألف يد تطول كل كبيرة وصغيرة. لا مكان بعيداً عن سطوته. ولا متعة مستحيلة التحقق. يمتلك السلطة والثروة. وكان ينقصه السلاح فاكتشف موضوع العصابة التي يمكنها تصفية الخصوم وتأديب المعارضين، ويمكنها أيضاً ضمان السكوت عن فضائح يراها أهل الليل والسهر وهواة الاقتراب من الكبار.
العصابة هي الستار الحديدي الذي يُعمي الأبصار عن فضائح الكبير وغزواته الليلية. قد تكون العصابة حكاية من اختراع خبير الأسرار، أو شائعة منتشرة في كواليس السلطة. ويريد صاحب النفوذ بانتشارها بث الرعب في قلب من يفكر في الاقتراب أو كشف المستور.
لكن الحقيقة أن السياسة في مصر لم تعد بعيدة عن مناخ حرب العصابات. وعصابة الكبير ليست موجّهة فقط للمعارضين، لكنها جاهزة لتصفيات على مستوى ضيّق في النخبة.
يمكنها أن تؤدّب من تجاوز دوره على طريقة المافيا.
وما يحدث في مصر ليس بعيداً عن أجواء المافيا. العائلة هي نواة التنظيم الكبير. ليس المهم أن تكون العائلة رابطة دم أو زواج فقط، وهو ما حدث في نظام حسني مبارك إذ تحوّلت النخبة إلى عائلة بفعل المصالح.
هذه المجموعة لا تمتلك أدوات جديدة غير التي تعلّمتها عبر نصف قرن. وليس أمام هذه المجموعة، وهي في لحظة ضعف، لحظة دفاع أخير عن الكرسي، إلا أن تستخدم أي أسلوب حتى القتل أو التصفية المعنوية أو الجسدية. عقلهم مرعوب من فكرة التغيير. عقل موظفين يعيشون أمراض الشيخوخة. عقل بُرمج على خدمة السلطة ولا يمكن أن يبدع أو يفكر خارج برنامج الخدمة الدائمة للجالس على العرش.
ليس أمام هذه المجموعة إلا التضامن للحفاظ على شبكات الفساد. في الحكومة وزراء ليسوا فوق مستوى الشبهات. وفي مواقع المسؤولية، تحوّل الفساد إلى قانون من الموظف الكبير إلى الصغير. قانون تحميه أخلاق الحفاظ على الأسرار وتوريط الجميع في العمليات القذرة. وهو أسلوب شهير في المافيا.