وقفوني ع الحدود...
ودعّتُه ثلاث مرات، وفي كلّ مرة كنتُ أحزمُ حقائبه الصغيرة، من دون أن أنسى شهادات التقدير، معجون الحلاقة، صور طفولته ووسادة نومه، أرتبكُ قليلاً أمامه، أذكِّره بمكان جواز السفر وفلقة الصابون وكيس الزعتر، يذكرني بصورة جارنا الشهيد، فأخبّئها عن عينيه وعن نقاط التفتيش على الحدود. أمازحه ضاحكة: «صورة بنت الجيران أحلى!». توصيه أمي بالصلاة، تقف على أصابع قدميها لتطال قامته، تُقبّله فأبتسم، يضمني إلى صدره فأبكي ويبتلّ قميصه. تمسح أمي وجهها من ملحِ وداعه، يتفلت من يديها إلى الباب، كانت المرّة الأولى التي يبتعدُ صغيرها عنها، إلى أحلامه.
لكنّ ذلك المشهد، سرعان ما كان ينقلبُ إلى دراما ساخرة، حين يعودُ أخي من معبر رفح البريّ بعد ساعات، بحقائبه وأوراق قبوله في الجامعة، وبخيبةٍ ثقيلة.
ننفجرُ نحن من الضحك، وهو ينفجرُ بالشتائم واللعنات، ملوّحاً بيده بجوازِ السفر، وبيده الأخرى فردة حذائه المخلوع بغضب.
هكذا كان يتكرّرُ المشهد على الدوام، نودّعه ـــــ لكن بحماسةٍ أقلّ ـــــ ويعود إلينا لاعناً الحكومات والمعابر، قبل أن يرتمي على سريره بقهر، وينام.
لم يعبر أحمد الحدود، لا لأنه على القائمة السوداء، ولم يكن له نشاط سياسي، ولا لأنه لا يمتلكُ أوراقاً رسمية، لم يعبر أحمد الحدود فقط لأن مزاج الضابط المصريّ أو الفلسطيني كان معكّراً، ولأنه لم يدفع رشوةً لأحدهم، ولم يملك جواز سفر أجنبيّاً ليحترموه!
أخي أحمد واحد من كثيرين بقيت أحلامهم معلقة على جدارِ الأسلاك الشائكة، وعلى كراسي الانتظار الطويل، من دون أن يفهم أحد لماذا يفتحون المعبر ويغلقون السفر!
هم يفضّلون أن تكون كائناً غازياً على ألّا يروا جواز سفركَ الفلسطيني، كأنه ليس إلا دليلاً على كونك شخصاً غير مرغوب فيه، وأنك لاجئ ومتشرد حتى النخاع، ومن دون وطن. فإثباتُ هوية الفلسطيني يعني أنّه كائن كارثيّ ومنكوب وعرضة للتفتيش والترحيل والاتهامات.
كل شيءٍ يفقد إنسانيته فى غزة، الفرح والحب والوداعات، حقائبُ السفر أيضاً تفقد شكلها، مرّ عام وأحمد يتمرّن على حمل الحقائب وحفظ بوابات المعبر، ونجوم أكتاف الضباط، فبقينا نودّعه على أنه لن يسافر.
لكنه حين عبر الحدود وغادرَ قاعة الانتظار، لم نستوعب أنه سافرَ بلا عودة، وبلا وداع أيضاً.
أسماء شاكر ـــــ قطاع غزّة الصابر

فلسطيني

قرأت عن تشتيت الشتات. عن ذلك المخطط لتوزيع الفلسطينيين في بقاع الأرض. فعدت أدراجك الى شتائك الماضي. الى ذلك المخيم على الحدود العراقية ـــــ السورية. كان مخيماً لم تُنبت أرضه مقاتلين ولا زعتراً. شاهدت النكبة بدون آلة عرض سينمائي. كان العرض ملوّناً فكرهته. ربما لأن لون الخزان المرتفع كان فاقعاً يلفت النظر عن سواه. ولسخرية القدر فلإن الخزان صار بلاستيكياً فلم يعد من نفع لطرق جدرانه. رأيت وسمعت منهم الكثير. لكنك لن تعرف حقيقة ما عانوا. سمعت عن أم رحلت إلى العالم الآخر بحريق خيمة خلال ثوان سبع. ووقفت مع أب يحتضن طفله ساعة الرحيل إلى أوروبا. قال»سأعود مع ابني حين نحصل على الجنسية الأوروبية لنصلّي في القدس». سألت نفسك «هل سيبقى قدس حتى يكبر هذا الطفل؟؟ جمال أشار بيده الى حائط، لا بل نصف حائط، وروى لك كيف هرّب الحجارة والإسمنت ليحمي أطفاله من طوفان المطر. اختلفت تفاصيل الحكاية ربما. لكنك سمعتها من جدّك وأبيك وعمك وخالك من قبل. وفي ليلة الرحيل خرجت معهم في مسيرهم الأخير فوق أرض عربية. ردّدت بمرارة نشيد العروبة فبدا نشازاً. آه «بلاد العرب أوطاني من بغدان الى الشام». وازداد النشاز نشازاً حين تداخلت أصوات هدير المحرك مع عويل أطفال ركبوا الباص لأول مرة. فكثيرون ولدوا هنا ولم يخرجوا من المخيم لعامين أو ثلاثة. لمحت عيناك عبد العزيز، كان يقف بين القلّة التي بقيت تنتظر دورها للرحيل. كان ابن الثمانية أعوام رفيقك في الأيام الخمسة التي أمضيتها هناك. كان أول من استقبلك يوم دخولك. سألته من أين أنت؟ أجاب بصوت خافت «فلسطيني». رميته في الهواء وعلّمته أن ينطقها مدوّية. حتى انك كرّرت السؤال عليه أربع مرات هذا الصباح. كنت تجمع بقايا من أرض المخيم لصديق اعتاد أن يصنع من بقايا المخيم لوحات مفرحة. جمعت شباكين من خيمة، وحبلاً ووتد أغطية قوارير. وأحضر عبد العزيز مشط شعر بلاستيكي كسته طبقة من غبار تلك الصحراء. وها هو الغبار يرتفع، ويزداد الصخب ويميل الباص يميناً فتلتفت شمالاً. وتتمايل يد الطفل مودّعة متعاكسة مع أنسحاب أضواء الباص على رمال الصحراء. وترى الكلمة ترتسم على شفتيه فتخترق الزجاج والنشاز والقهر والحدود «فلسطيني... فلسطيني ..فلس....طيني.....
علاء الزعتر ـــــ (مستشفى غزّة) صبرا