نيويورك ــ لا تزال المنظّمة الأممية التي وُلدت من رحم حربين عالميتين لمنع حرب عالمية ثالثة، تحاول، من دون نجاح، حلّ الأزمة التي كانت عنصراً أساسياً في صنعها. فلسطين لا تزال تنتظر، لكن لا شيء ترفضه الولايات المتحدة قابل للتطبيق لديها، ولا أميركا أو الأمم المتحدة يمكن أن تقبلا شيئاً ترفضه إسرائيل. والأسباب وراء هذه التبعية متجذّرة بعمق النظام العالمي الجديد الآخذ في التبلور. عالم دخلت إسرائيل عنصراً أساسياً في سبكه.
في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تختلف الصورة العالمية عما كانت عليه في مطلع القرن. الحرب العالمية على الإرهاب تعمّقت داخل البنى السياسية والعسكرية والفكرية بشكل يصعب اجتثاثه لاحقاً. انتقلت الصراعات إلى الدوائر القانونية الدولية.
والمشاكل الإنسانية والسياسية والاقتصادية والبيئية والعسكرية وحتى الحقوقية لم تعد تصلح معها المعالجات المنفردة. كل الأمور باتت تحتاج إلى معالجات جماعية. ولم يعد ينفع إيكال المسائل إلى القطاع الخاص وترك الأمور تعالج من منطلق قانون العرض والطلب. لكن في غياب الأيديولوجيات الاجتماعية والقناعات الإنسانية، يعود شبح الفاشية والاستعمار ليخيّم على العالم. وبدلاً من أن تصبح الأمم المتحدة مقراً لإنتاج الحلول والأفكار، يزداد تسخيرها من الأطراف النافذة في توطيد تحالفاتها الاستعمارية الخاصة.
في العقد الأخير ترسّخت في نصوص الأمم المتحدة فكرة أن الشعوب في المناطق المستهدفة استعمارياً مصدر للإرهاب ينبغي تجفيفه وتطويعه. وهذا الإرهاب بات معروفاً أنه يصدر «عن الشعوب الإسلامية» لا عن الحكومات.
كل التنظيمات الشعبية خطرة وإرهابية ومتمرّدة على النظام العام إلا في أفريقيا. هناك لا تختلف الدول النافذة، عدا الصين، على دورها في صياغة الحدود السياسية التي يعاد رسمها استعمارياً.
ومثل شيخوخة الأمم المتحدة، هناك دول في الشمال شاخت أيضاً وبات لها منافسون ومساعدون صاعدون في الجنوب. دول مثل الهند والبرازيل.
إسرائيل تظهر في هذه الصورة شريكاً رئيسياً مخترقاً ومسيّراً للآخرين بطرق في غاية السريّة والدهاء. فهي دولة محورية في الاقتصاد الإقليمي وفي البعد الاستراتيجي. تستعمر وتفرض نفوذها على دول في المنطقة. اقتصادها يصل 3 أضعاف اقتصاد الدول المحيطة بها، أي لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر (210 مليارات دولار في العام الماضي وحده). إضافة الى امتلاكها أيديولوجية رأسمالية استعمارية متطرّفة، باتت في مستوى فرنسا في صادراتها الحربية ولها برنامجها الخاص في الصراعات الدولية. وهي أيضاً من المراكز الرئيسية لإنتاج التكنولوجيا العسكرية المتطورة، ومن أكثر الدول تقدماً في تكنولوجيا السلاح المجهري «نانو» الغادر.
ما من دولة نجحت في تغيير المفاهيم المتعلقة بـ«الأخيار والأغيار الأشرار» مثل إسرائيل. جعلت حق مقاومة الاحتلال إرهاباً وتخريباً. ونجحت في التملص من كل القرارات والتحقيقات الدوليّة التي تدين جرائمها. وعلى الصعيد العملي، تقوم إسرائيل بأدوار في غاية الخطورة على المديين القريب والبعيد. شركات إسرائيل الاستخبارية والأمنية تبرم صفقات سرّية متجاوزة الأطر والمؤسسات الدستورية في الدول التي تتمتع ببرلمانات ديموقراطية عريقة. يحصل ذلك بداعي السرّية والأمن. وباتت الشركات الحربية الإسرائيلية تشارك في عمل شرطة مدينة لوس أنجليس من دون المرور باتفاقية رسمية أو بمناقصة علنية عبر الدولة.
الأمر نفسه ينطبق على العقود التي أبرمتها الشركة الإسرائيلية مع كندا لضبط موانئها ومطاراتها وأجهزتها الأمنية الداخلية من شرطة وجوازات. لذلك لم يكن مستغرباً أن تقف كندا موقفاً محاسباً لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»، والتهديد بقطع المعونات عنها. دور إسرائيل المخترق لكل الدوائر يصبّ في إطار التوجه الإسرائيلي لضبط الأقليات الإسلامية المهاجرة. عبر نفوذها وتقنياتها وتحالفاتها، تتوسع في المنطقة أخطبوطياً لتحتل شبكات الاتصالات الإقليمية من باكستان شرقاً إلى موريتانيا غرباً والسودان والجزيرة العربية جنوباً. وفي الشمال، يرجح أن تكون قد احتلّت الاتصالات السورية والتركية والعراقية.
ورغم شحّ الموارد الحكومية في زمن الأزمات، لا يبدو أن الصناعة الحربية تأثرت في الدول المعتلّة اقتصادياً كالولايات المتحدة. فلقد بلغت ميزانية وزارة الدفاع التطويرية للسلاح للعقدين المقبلين التي أقرّت العام الماضي 1.4 تريليون دولار. أما ميزانية البنتاغون السنوية التي وقّع عليها الرئيس باراك أوباما هذا العام فهي الأكبر في التاريخ إذ بلغت 680 مليار دولار.
ويحق لإسرائيل الحصول على التقنيات العسكرية الأميركية وتسويق منتجاتها ثم إعادة بيعها إلى الولايات المتحدة نفسها من دون كلفة. مثال على ذلك ما تقوم به شركة «ألبت سستمز» الإسرائيلية التي تبني جداراً مع المكسيك بشراكة مع «بوينغ» الأميركية، المتخصصة في مواد الرقابة من كاميرات الرؤية الليلة وعدساتها إلى أجهزة التعقب والتنصت وأجهزة الاستشعار، وتدخل منتجاتها في نظم الأقمار الصناعية وتكنولوجيا الحروب الإلكترونية. ولدى إسرائيل أفضل أنواع الطائرات من دون طيار للتجسس والقتال. كواسر جوية خطيرة تبيعها حتى للشرطة الأميركية ولسلاح الطيران الروسي، وغالبية الطائرات المقاتلة من هذا النوع المستخدمة في باكستان وأفغانستان. وفي الصيغة الدولية الناشئة، تقدّم إسرائيل نفسها على أنها خير من يمكن الاعتماد عليه في ضبط الأعداد «الفائضة» من سكان المدن. فنجدها تجنّد فلسطينيين لضبط السكان نيابة عنها. في مقابل تعاظم الدور الإسرائيلي الأمني حول العالم، لا تبدو أوروبا قادرة على المشاركة عسكرياً في المشاريع الأميركية ـــــ الإسرائيلية الجامحة بالاندفاعة نفسها، فهي تقلص ميزانياتها الدفاعية خشية تأثيرها على ميزانياتها الاجتماعية. لكنها ستمضي في الحرب على الإرهاب إلى النهاية، وخصوصاً مع ضخ جرعات منبّهة لها بتفجيرات متفرقة. وبالتالي، يمكن توقع أن يتعزز دور الكيان الإسرائيلي في المعادلة الدولية على حساب الدور الأوروبي.