عندما احترق الكرمل
كانت الساعة قد تعدّت العاشرة، عندما دخلت قاعة المحاضرة، عيناي نصف مغمضتين، وقد عزمت على أن أغفو طوال الدرس. آخر ما أذكره قبل دخولي ، أن السماء كانت تشكو من صفاء رهيب، وهدوء مزعج يملأ المكان، كل شيء كان على ما يرام لدرجة مريبة. المحاضرة التي استمرت ساعتين، قضيت نصفها نائمة، والنصف الآخر محاولةً تفادي إزعاج رفاقي الذين تناوبوا على إيقاظي، كأنّ أهم قضية لدى البشر هي منعي من النوم خلال محاضرة علم الاجتماع تلك

، لكن تلك الساعتين كانتا كافيتين للبدء بحرب استمرت أياماً عدة، غيّرت وجه الكرمل لأربعين سنة قادمة. خرجت من المبنى، إلا أنه، ورغم أني خرجت كما دخلت، كانت هناك سحابة غريبة تشوب صفاء سماء، والشمس مختبئة خلفها، والأفق أحمر ينذر بالغروب رغم أن الساعة لم تتجاوز الثانية عشرة وقتها، تلك كانت البداية. وبعد محاولات فاشلة لتكهّن مصدر السحابة عرفنا مصدرها، بخط عريض بأحد المواقع الإلكترونية: حريق قرب قرية عسفيا. 4 أيّام مرّت قبل أن يستطيعوا السيطرة على النيران وإخمادها، ما يقارب خمسة ملايين شجرة و50 ألف دونم أرض في جبل الكرمل اشتعلت، وما لا يقل عن 15 ألفاً من السكان أُخلوا من مساكنهم في حيفا وقضائها. كل هذا يعلمه الجميع جيداً، فقد كان فشل «إسرائيل» في إخماد الحريق واضطرارهم لطلب المساعدة ممّن هبّ ودبّ ، حديث الساعة. جميعهم كانوا يحلّلون ويدقّقون في مدى ضعف «إسرائيل» وعجزها عن مواجهة كارثة طبيعية، فكيف لها أن تواجه حرباً من كل الجهات لاحقاً؟ وهذا كله يقع ضمن الحقائق لعلمية للحادثة، وسيتناولون لاحقاً إسقاطاتها السياسية والجغرافية، وكيف لحريق الكرمل العظيم أن يغيّر خريطة الشرق الأوسط، وهو أمر منطقي، فلولا هذا الحريق لما فضح مدى ضعف «إسرائيل» في مواجهة الحرائق، وبالتالي كانت ستواجه مأزقاً حقيقياً لو أنّ الحرب اشتعلت قبل اندلاع الحريق كما يزعمون. لكنّ ما أشعل قلبي، وأفحمه أكثر من أشجار الكرمل، هو عبارتهم المستفزّة «كرملنا يحترق». كأن الكرمل لهم، وكأنهم يملكونه، كان وقعها جارحاً، ولا سيما إلقاؤهم اللوم على العرب للتسبب في هذا الحريق، غاضّين الطرف عن إهمالهم وضعفهم، منادين بكل وقاحة ووضوح، بطرد العرب من البلاد، كأنها بلادهم (لهذا حين أخلوا قرية عين حوض، رفض أهلها إخلاءها كلياً، ورابط الشباب في القرية المحترقة، حتى يضمنوا عودتهم عند إطفاء الحريق). لكن ما كان جارحاً أكثر هو أن أرى بعضاً من أبناء جلدتي فرحين بحريق الكرمل، كأنه ليس لنا، كأنه لهم.
قد يكون الكرمل أسيراً، كما هي البلاد وأهلها، لكنه حرّ كما البلاد وأهلها، وهو، رغم كل شيء، وقبل كل شيء، لنا نحن، ولمَن بعدنا، ونحن من سنزرعه مجدداً لينمو أخضر كما كان، شامخاً كما هو أبداً، صامداً حتى النهاية. أما أنا فلن أغمض عيني عن الكرمل بعد الآن، فعيني، وعين الله تحرسانه!
أنهار حجازي – الجليل

كرملنا يحترق

تناقلت وسائل الأخبار حريقاً يجري في الكرمل، الكل شمت بأربعين سجاناً ماتوا في هذا الحريق أثناء دورة لإعداد الجلادين، لكن عاقلاً قال.. كرملنا الذي يحترق، ومجنوناً قال: يعني الصهاينة حتى بالسفالة مش فالحين؟ احتلّوا بلادنا وفوق الاحتلال حرقولنا الكرمل؟ بالنسبة إليّ، فقد بكيت وأنا أسمع أغنية ريم بنا الكرملية، أغنية يا كرمل الروح. بغضّ النظر عن نوع الموسيقى والأداء وترّهات اللغة، كنت أصرخ من قاع الروح لا من كاعها.. يا كرمل الروح. يا كرمل الروح احترقت.. وأنا احترقت أكثر من نيرانك.
أنا ذهبت للكرمل ورأيت الرينة وقطينة وتبيّن لي أن المثل القائل «زلام الرينة العشرة بقطينة» لم يكن استهزاءً بأهل الرينة بل كان توصيفاً لمشاجرة بين 10 رجال من الرينة ضربوا أغلب أهل قطينة. كل ما رأيت كان في الطريق إلى طبريا المقدسة، التي مشى يسوع على أمواجها، لكن اليهود يقولون إن من مشى على تلك الأمواج هو يوسف النبيّ؟ يوسف كان في مصر ولم يمش إلا على زوجة العزيز زليخا ومشى علينا غصباً عنا. رأيت في فلسطين وفي جليل فلسطين قلعة بهاء الله، وما كانت بهاءً لأي إله إلا لأنها مرت في أرض اختزلت الديانات السماوية، علماً أن كل شبر في فلسطين له علاقة بالسماء. يسوع المسيح له قرابة من أبناء شاتيلا أكثر من أبناء قرنة شهوان ومن مار مارون ومار شربل نفسه. رأيت كل ذلك ورأيت البحر من الجليل الأعلى والأغلى.رأيت كرملنا العظيم، وعرفت أنه يحترق. قل لي بربّك أينما كنت يا ابن وطني المسلوب يا ابن شعبي الذبيح، كيف مرّ عليك خبر الحريق؟ هل شمتّ بأربعين سجاناً، أم استنكرت مساعدات مبارك والسلطة للأطفائيين الصهاينة، أم تمنيت نجاح هذه الجهود كي يبقى كرملنا ينتظرنا وهو الكرمل الذي حلمنا به، كرملنا الأخضر. أم تراك مثلي فرحت بموت 40 جلاداً وتمنيت الموت للصهاينة. وتوقعت في يوم عودتنا. أن نرى براعم الكرمل تتفتح أمام أعيننا التي قد تكون كهلة لكنها في أول الطفولة، طفولة عودتنا التي لا تموت، لأنّ من آمن بي وإن مات فسيحيا والناصري من أطراف الكرمل.
معاذ عابد - عمان