«بسام كان واحداً منا. كان دائماً جاهزاً للوقوف إلى جانبنا». بهذه الكلمات، وصفت السياسيّة الأميركية وعضوة الحزب الديموقراطي، كوري بوش، الناشط الأميركي-الفلسطيني من مدينة سانت لويس، باسم مصري، من داخل مجلس النواب الأميركي، في 13 أيار الماضي.
وفي اليوم الذي سلّطت فيه عناوين الصحف الضوء على تصعيد الضربات الإسرائيلية في غزة، والتي أودت إلى مقتل نحو 200 فلسطيني خلال 11 يوماً، ربط خطاب بوش القضية الفلسطينية بأحداث أقرب إلى الداخل الأميركي. يشار إلى أنّ مصري، الذي فارق الحياة عام 2018، كان واحداً من بين الفلسطينيين الذين انوجدوا في الصفوف الأولى في التظاهرات التي شهدتها مدينة فيرغسون، في ولاية ميزوري، عام 2014، عقب مقتل الشاب الأميركي من أصول أفريقية، مايكل براون.

وتتابع بوش: «كشاب فلسطيني، كان مصري جاهزاً للمقاومة، للتمرّد، للنهوض معنا، بهدف وضع حد لعسكرة الشرطة التي تحتلّ مجتمعاتنا».

تأثير «حركة السود مهمّة»

ساهم العنف الذي وقع بين إسرائيل وفلسطين في تحريك شعور قوي بالتضامن لدى الأميركيين من أصول أفريقية. وقد عبّر عدد من المشاهير من ذوي البشرة الداكنة، من لاعب فريق السلة «بروكلين نتس»، كايري إيرفينغ، إلى الممثلة، فيولا ديفيس، بوضوح كبير عن دعمهم للفلسطينيين. كذلك، ساهم الناشطون في حركة «حياة السود مهمة» في تنظيم التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد، والترويج لها. وقد اختصر أحد منظمي الحركة، في نيو جيرسي، المشاعر التي كانت تسيطر على الناشطين فيها بالقول: «نحن ذقنا طعم الاحتلال، ندرك جيّداً ما معنى الاستعمار ومعنى وحشيّة الشرطة».

وجاء تصعيد العنف، هذا الربيع، في خضم تحوّل ملحوظ في الرأي العام الأميركي. وبحسب استطلاع أجرته مؤسسة «غالوب»، في شباط، أصبح معظم الديموقراطيين يرون أنّ على الولايات المتحدة أن تمارس الضغط، في الوقت الحالي، على الإسرائيليين أكثر منه على الفلسطينيين، لحل النزاع. وهذا الموقف هو الأكثر دعماً للضغط على إسرائيل منذ بدأت «غالوب» بتعقّب هذه المسألة، عام 2007. وقد يعود الفضل في جزء من هذا التغيير إلى حركة «حياة السود مهمّة»، بحسب مراقبين ممّن يدينون هذا الموقف أو يرحبون به. فقد شجّعت هذه الحركة الأميركيين على رؤية المسألة من منظور العدالة العرقية. وفي حين تحدّى الإسرائيليون، والأميركيون من داعمي الحكومة الإسرائيلية، هذا «التأطير»، معتبرين أنّ قصف غزة هو نوع من الدفاع الشرعي عن النفس في مواجهة «تهديد إرهابي»، فمن الواضح أنّ سائر الأميركيين ينظرون إلى الصراع بشكل مختلف.

وقد ينذر هذا التحوّل في الرأي العام بمرحلة جديدة في ما يخصّ هذا التضامن المستمر منذ عقود، في أواسط الأميركيين من أصول أفريقية، مع القضية الفلسطينية.

ولطالما كان هنالك افتقار لفهم تاريخ هذا التضامن، ويعود سبب ذلك، جزئياً، إلى أنّ آثاره على النقاش الوطني كانت، حتى الآن، محدودة. وفي السنوات الماضية، لفت الناشطون في قضية «السود»، انتباه الحركات الاجتماعية الأخرى على القضية الفلسطينية، كما دافع السياسيون الأميركيون من ذوي البشرة الداكنة عن هذه القضية في المناقشات السياسية الخارجية للولايات المتحدة. إلا أنه نادراً ما كانت تتمّ ممارسة هذين النوعين من التأثير بالتوازي.

واليوم، يبدو أن هناك جهوداً متصلة بين منظمي القاعدة الشعبية، والمشرّعين ممّن كانوا من الناشطين السابقين، بهدف دفع الرأي الوطني وسياسة الولايات المتحدة نحو موقف أكثر ودّية تجاه الفلسطينيين. ولطالما أدّت تجارب عنف الدولة وقمعها، التي تَشاركها «السود» والفلسطينيين، إلى إحياء التضامن بينهما. وفي حال استمرّت حركة «حياة السود مهمة» في تحفيز المناقشات حول الظلم العنصري في الولايات المتحدة، كما فعلت في العام الماضي، فقد يساعد هذا أيضاً في إحداث تحوّلات في مقاربة الأميركيين للقضية الفلسطينية.

حرب حزيران 1967: التحوّل الأوّل

وفي خلال جزء كبير من القرن العشرين، أعرب العديد من الناشطين الأميركيين من أصل أفريقي عن إعجابهم بـ«القضية الصهيونية»، ووجدوا من خلالها ضرورة للتحالف مع نضال أقلية أخرى مضطهدة في العالم الغربي. ويبدو أن مشاركة العديد من اليهود الأميركيين، الذين ضحى بعضهم بحياتهم في حركة الحقوق المدنية في الخمسينات والستينات، ساهمت في توطيد هذا الدعم.

غير أنه منذ حرب حزيران 1967، حين غزت إسرائيل الضفة الغربية وغزة، استحوذ الصراع على اهتمام الناشطين السود، في وقت كانت فيه حرب فييتنام أيضاً تدفع بهم إلى إدانة ما اعتبروه ممارسات إمبريالية للولايات المتحدة في الخارج. آنذاك، رأى كثيرون في حركة «حرية السود» أن غزو إسرائيل للأراضي الفلسطينية، تماماً كحرب الولايات المتحدة في فييتنام، هي ممارسات إمبريالية، توازي العنف العنصري الذي يعاني منه الأميركيون-الأفارفة في بلدهم. وقد نشرت لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية كتيّباً حول «مشكلة فلسطين»، وصفت فيه الصهيونية كمشروع إمبراطوري تدعمه «الحكومات الاستعمارية الغربية البيضاء»، في الولايات المتحدة وأوروبا.

تزامناً مع ذلك، أعرب حزب «الفهود السود» عن دعمه للمقاومة الفلسطينية التي ظهرت في أعقاب الحرب، مصوّراً حركة «فتح» والحزب على أنهما يخوضان «كفاحاً مشتركاً»، في وجه «العنصرية والصهيونية والإمبريالية». وبالنسبة لهذه المجموعات، كان الأميركيون من أصل أفريقي شعباً «مستعمراً داخلياً»، وموقعه في الولايات المتحدة كان مماثلاً لمركز شعوب «العالم الثالث» في العالم، بما في ذلك الفلسطينيون.

كما حرّكت حرب العام 1967 نشاط العرب الأميركيين، الذين أنشأوا صلات مع الناشطين والسياسيين «السود»، خلال أواخر الستينات وأوائل السبعينات. وقد دعت منظمة «الطلاب العرب»، زعيم حركة «القوة السوداء»، ستوكلي كارمايكل، إلى التحدّث في مؤتمرهم الوطني عام 1968. وقد وجّه هذا الأخير نداء نارياً، يحثّ فيه السود على دعم الثورة الفلسطينية. وقال كارمايكل، في كلمته، إنّ «فلسطين هي حق للفلسطينيين». وعلى صعيد مختلف، قام أعضاء رابطة «خريجي الجامعة العربية-الأميركية»، بإبراز الروابط الاقتصادية والعسكرية بين إسرائيل والفصل العنصري في جنوب أفريقيا، للمشرّعين في «كتلة النواب السود» في الكونغرس، كما شكّلوا جماعات ضغط داعمة لشيرلي تشيشولم، خلال فترة ترشحها للرئاسة عام 1972.

وعلى صعيد الحركة العمالية، شكّل المنظمون الأميركيون العرب «تجمّع العمال العرب» في مصانع السيارات، في ميشيغان عام 1973، وقد اتبعوا بشكل صريح نموذج مجموعة من تجمّعات السود المتطرفة، التي تشكّلت في مواجهة الممارسات العنصرية في شركات السيارات، واتحاد «عمّال السيارات المتحدون». ومع دعم بعض العمّال السود، نجح «تجمّع العمّال العرب» في الضغط على اتحادهم المحلي، من أجل التخلص من السندات الإسرائيلية. وقد هبت هذه الموجة من النشاط، في أواسط «السود» والأميركيين من أصول عربية، جنباً إلى جنب مع الاحتجاجات الجماعية المناهضة لحرب فييتنام، وانتفاضات السود في المدن في جميع أنحاء البلاد، ووضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال الحركات الاجتماعية لليسار الأميركي، والتي نادراً ما كانت تحظى بتأثير في مجال السياسة العليا.

وبحلول عام 1980، كان وهج النشاط التضامني بين السود والفلسطينيين قد تلاشى. وعلى غرار العديد من المؤسسات التي بقيت في الستينيات، أصبحت الجماعات، التي كانت تحتضن هذه الصلات، في حالة من الفوضى: فقد مزّقت الصراعات على الزعامة والانقسامات الأيديولوجية العديد منها، أو أهلكتها رقابة الحكومة وقمعها. وتزامن التدهور المؤسسي مع التقليل من جاذبية تحديد الهوية السياسية «للعالم الثالث». ومع تراجع حركات إنهاء الاستعمار، في منتصف القرن العشرين، توقف العديد من الناشطين الأفارقة الأميركيين عن النظر إلى الكفاح من أجل المساواة العرقية، في الولايات المتحدة، كجزء من كفاح عالمي موحد.

غير أنّ العديد من السياسيين السود، آنذاك، أخذوا على عاتقهم مهمة النهوض بالقضية الفلسطينية. وفيما كانوا يعملون على صعيد أعلى مستويات الدبلوماسية الأميركية والحزب الديموقراطي، امتنعوا عن دعم المتطرّفين السود في ما يخض الثورة الفلسطينية المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. في المقابل، سعوا إلى تسوية تفاوضية دبلوماسية، تمنح الفلسطينيين قدراً أكبر من الحكم الذاتي.

وفي عام 1979، تعرّض سفير الأمم المتحدة وزعيم الحقوق المدنية السابق، أندرو يونغ، للضغط من أجل الاستقالة، بعد أن التقى سرّاً بممثّل لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبعد استقالة يونغ، تركّزت المواجهات الصحافية على تراجع العلاقات بين السود واليهود محلياً، ولكنها مكّنت أيضاً وجهة النظر الأكثر دعماً للفلسطينيين، من إيجاد مكان في المناقشة الوطنية.

وكان من بين أشرس المدافعين عن يونغ، في ذلك الوقت، القس جيسي جاكسون. وقد ترأس جاكسون وفداً إلى الشرق الأوسط، مباشرة بعد استقالة يونغ، واجتمع مع كل من المسؤولين الإسرائيليين، وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك ياسر عرفات. ودفع جاكسون الولايات المتحدة إلى التفاوض مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، فيما كان يلمح حتى إلى أوجه التشابه بين نضال الفلسطينيين ونضال الأميركيين من أصل أفريقي: «إننا نتفهم دائرة الإرهاب والألم»، وأضاف: «ومع ذلك، في حال كانت أميركا تمتلك حرية الكلام، فربما تكون قادرة على السعي إلى المصالحة».

وفي ما بعد، سيترك جاكسون بصمته العميقة على وجهات النظر الأميركية حول المسألة الإسرائيلية-الفلسطينية، بعد نحو عقد من الزمان، خلال حملته الانتخابية الرئاسية، عام 1988. وقد عملت حملته، بالتعاون مع «المعهد العربي الأميركي»، على إصدار قرارات، تؤيّد حل الدولتين، في إحدى عشرة اتفاقية من اتفاقيات الحزب الديموقراطي. وفي المؤتمر الوطني الديموقراطي لعام 1988، مرّر مندوبو جاكسون الأعلام الفلسطينية والقمصان كجزء من محاولة لترك الانطباع ذاته في منصة الحزب. على الرغم من أنّ الحملة أسقطت في نهاية المطاف معركة المنصة، فإنّ رفض جاكسون للتنصّل من هذه المسألة أَطلق ما سمّاه المؤرخ، نيخيل بال سينغ: «أوّل مناقشة عامة هامة في الولايات المتحدة، حول فكرة حل الدولتين في الشرق الأوسط».

وبين الحين والآخر، كان جاكسون يروّج لصورة النضال المشترك ضدّ الاستعمار، والذي كان يحفز التضامن بين السود والفلسطينيين في الستينيات، مؤكداً في إحدى المراحل: «نحن نفهم الحياة تحت الاحتلال، لأننا كنا محتلين». وعلى الرغم من ذلك، فإنّ خطابه لم يكن حازماً تماماً، حتى عندما سلط الضوء على الروابط الواسعة النطاق بين إسرائيل والفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وبدلاً من تأييد الثورة الفلسطينية، كما فعل كارمايكل قبل عقدين من الزمن، أصر جاكسون على أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل كوسيط نزيه بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، للتفاوض على حلّ للصراع. ومن خلال التركيز على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مثّلت حملات جاكسون تحوّلاً تكتيكياً من النشاط الراديكالي في الستينات والسبعينات. وبينما ركزت الجهود السابقة على خلق ضغط «من الأسفل»، سعى كل من جاكسون ويونغ إلى التأثير على عملية صنع السياسات بشكل مباشر.

إحياء استراتيجيات التضامن

واليوم، تشير بعض الأدلة إلى أن المدافعين عن فلسطين من أصل أفريقي يعيدون إحياء هاتين الاستراتيجيتين معاً، مع تدعيم القاعدة الشعبية المؤلفة من ناشطين في تنظيم «حياة سوداء مهمة» للإجراءات التشريعية التي يتخذها الساسة السود. ففي عام 2017، شارك 11 عضواً من «التجمع الأسود في الكونغرس» في رعاية مشروع قانون عضوة الحزب الديموقراطي، بيتى مكولوم، لحظر استخدام المساعدات الأميركية إلى إسرائيل في احتجاز الأطفال الفلسطينيين. وقد اتخذ ممثلو السود الجدد، من الذين استحوذت حملاتهم على قوتها من تنظيم «حياة السود مهمة»، وأبرزهم إلهان عمر، وكوري بوش، وأيانا برسلي، وجمال بومان، مواقف مؤيدة للفلسطينيين أكثر قوة من معظم زملائهم في لجنة بناء السلام، بما في ذلك من خلال المشاركة في رعاية القرار المشترك الأخير، الذي رفض بيع الأسلحة إلى إسرائيل بمبلغ 735 مليون دولار أميركي.

بالنسبة للناشطين في تنظيم «حياة السود مهمة»، الذين يدافعون عن الفلسطينيين، لا يزال الطريق أمام الحزب الديموقراطي طويلاً. ولكن تخلي المشرعين، في الأسابيع القليلة الماضية، عن موقف مؤيّد لإسرائيل، قد يشير إلى بدء استجابة الديموقراطيين المعتدلين حتى للتغييرات التي تطرأ على الرأي العام. وتتجلى هذه التغييرات بشكل خاص بين الشباب اليهود الأميركيين، الذين يتخذون موقفاً حاسماً تجاه إسرائيل، ويشكلون أغلبية ساحقة من الناخبين الديموقراطيين. بالتالي، استغلّ المشرّعون، بمن فيهم بوش ورشيدة طليب، الفلسطينيين الأميركيين الوحيديْن في الكونغرس، المناخ المتغيّر هذا لجعل رؤيتهم لشأن فلسطين في مقدمة المناقشات الداخلية. ورغم أنّ الدعم الصريح للفلسطينيين، داخل المجلس، والقرار الرمزي ضد بيع الأسلحة لن يحدث بالكاد أي تغيير في سياسة الولايات المتحدة، فإنّ سياسات الحركة والسياسة المؤسسية تعززان بعضهما البعض، على نحو لم يختبره، في الماضي، أي من جاكسون أو كارمايكل.

وقد أكدت المظاهر الأخيرة عن التضامن بين السود والفلسطينيين على وجود تجربة مشتركة تتمثل في المعاناة من عنف القوات الأمنية المستمر. وفي وقت سابق من هذا الشهر، بينما كان جندي إسرائيلي يضغط بركبته على رقبة أحد المتظاهرين الفلسطينيين، في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، ظهر هذا الرجل، في تسجيل مصور، وهو يقول: «لا أستطيع التنفس». وفي تجمّع في بروكلين، بمناسبة ذكرى وفاة جورج فلويد، انطلقت هتافات «فلسطين حرّة» من بين الجموع. وما دام الناشطون يستمرون في الحشد ضدّ عنف الدولة، الذي يخيم على الحياة الأفريقية-الأميركية وحياة الفلسطينيين، على حد سواء، تتوفر لسياسة التضامن الجديدة بين السود والفلسطينيين، وتأثيرها على المناقشة الأوسع نطاقاً، جميع أسباب النمو.

المصدر: «بوليتيكو»